واجهة بوش هاوس
في مساء الثالث من يناير/ كانون الثاني عام 1938م، قرأ المذيع أحمد كمال سرور أول نشرة إخبارية على أثير الإذاعة العربية الوليدة، أولى الخدمات العالمية لبي بي سي.
سبق بدء البث مباشرة حفل افتتاح ألقيت فيه كلمات نجل ملك اليمن، الأمير حسين سيف الإسلام، وسفير مصر في لندن عبد الرحمن حقي، والشيخ حافظ وهبة الوزير السعودي في لندن، ووزير العراق في لندن سيد رؤوف الجادرجي.
لكن خبرا عن إعدام فلسطيني، بأمر المحكمة العسكرية البريطانية، سرعان ما عكر صفو المناسبة لبعض الوقت بين المحتفلين وكبار المستمعين العرب الغاضبين من الخبر ومن الحكومة البريطانية التي لامت بدورها مشغلي الخدمة الوليدة على إذاعة النبأ.
كيف رأت بي بي سي عربي النور؟
قبل تدشين خدمتها العربية الخاصة بها، تعاونت بي بي سي في منتصف الثلاثينات مع الفيزيائي، غولييلمو ماركوني، في تأسيس الإذاعة الوطنية الفلسطينية (1936-1948) والإذاعة الوطنية المصرية (1934- وحتى الان).
وقد استفادت بي بي سي عند إطلاق الخدمة الإذاعية العربية من تجربة محطة الإذاعة الفلسطينية التي كانت تبث برامجها بالعربية والعبرية والإنجليزية.
وكان ماركوني قد أسهم في تأسيس "شركة الإذاعة البريطانية" كمحطة إذاعية خاصة في 1922، قبل أن تتحول إلى خدمة عامة لاحقا عرفت بهيئة الإذاعة البريطانية عام 1927.
وفي 1932، أنشئت خدمة ناطقة بالإنجليزية حصرا موجهة للمستعمرات ومناطق الانتداب تحمل اسم خدمة الإمبراطورية البريطانية، وكانت تعيد بث المواد المسجلة بالإنجليزية عبر الخدمات الإذاعية المحلية. وفي 1939، حملت هذه الخدمة اسم الخدمة الخارجية العامة، وهي نفسها التي صارت في عام 1965 الخدمة العالمية لبي بي سي.
في السنوات التي أعقبت تدشين "خدمة الإمبراطورية البريطانية"، ظهرت متغيرات جديدة في الساحة الدولية ولا سيما في السنوات السابقة على الحرب العالمية الثانية استدعت فيما بدا الحديث لشعوب المستعمرات أو مناطق الانتداب البريطاني بلغاتهم التي بلغ عددها 40 لغة بنهاية الحرب.
العاهل الأردني الراحل الملك حسين في لقاء مع بي بي سي عربي، 1959
أطلقت الحكومة الإيطالية راديو باري الناطق بالعربية في عام 1934 من طرابلس الغرب في ليبيا، ما فسر على أنها محاولة من روما لتأجيج الاحتجاجات ضد بريطانيا في مستعمراتها العربية.
لذلك أطلقت الحكومة البريطانية الخدمة العربية عام 1938 كأولى خدماتها بلغة غير الإنجليزية، ضمن خدمات بي بي سي الموجهة لمناطق الانتداب.
بدايات الخدمة العربية لبي بي سي
بدأت الخدمة العربية ببث يزيد قليلا على ستين دقيقة يستهل بنشرة أخبار ثم رسائل من قادة مناطق الانتداب العربية، ثم مواد متنوعة. زادت تلك الفترة إلى ثلاث ساعات مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت تذاع خلالها أربع نشرات إخبارية، وكان البث يُستهل بآيات من القران الكريم في نهج استمر لعقود طويلة.
وفي السنوات التالية، انضم لسرور في تقديم المواد الإذاعية الرواد حسن الكرمي صاحب برنامج "قول على قول" وعيسى الصباغ الذي اشتهر بقراءته الرصينة للتحليلات السياسية. وتوالت الأسماء اللامعة العربية تباعا لتكون المحطة التي ذاع صيتها جسرا بين بريطانيا وشعوب مستعمراتها في ذلك الحين.
وبمرور الوقت اتجهت بي بي سي للتخفيف من مساحة المادة الإخبارية السياسية إلى المواد الثقافية في محاولة لدعم الخدمة كأداة ناعمة. وكان للغة العربية ورموزها من كبار الكتاب العرب نصيب وافر في برامج الإذاعة بينهم الأديب طه حسين.
سياسة وثقافة
ظلت الإذاعة بعنوانها المعروف "هنا لندن" بعد دقات بيغ بن ملتقى للعديد والعديد من الشخصيات العربية المؤثرة في الفن والثقافة والرياضة والموسيقى والغناء وغير ذلك، ومن بين الأسماء التي تحدثت عبر أثير بي بي سي في تلك الفترة أم كلثوم خلال زيارة للندن في عام 1949 والمغنية اللبنانية فيروز في 1961.
ومن هذه الأسماء التاريخية فيصل الثاني ملك العراق الذي سجل في أبريل 1951 لقاء بثته بي بي سي بمناسبة عيد ميلاده السادس عشر حيث كان الملك طالبا في مدرسة هارو ببريطانيا آنذاك. والأمير فهد بن عبدالعزيز، وزير الداخلية السعودي آنذاك .
فيروز في لقاء مع بي بي سي عربي
ثم جاءت حرب السويس في 1956 لتمثل تحديا جديدا أمام استقلالية الإذاعة البريطانية بعد مشاركة بريطانيا لكل من فرنسا وإسرائيل في الحرب.
وتوسعت الخدمة العربية في بي بي سي وتطورت بمرور الوقت وانضم اليها مزيد من الوجوه التي صارت نجوما في أرجاء العالم العربي الذي كانت معظم محطاته الإذاعية وأدواته الإعلامية مستقطبة بشكل أو آخر ومن بينهم الطيب صالح الروائي السودانيومديحة المدفعي.
وكانت حرب 1967 فرصة لتكون الخدمة العربية ملاذ جل المستمعين العرب بعدما روت إذاعاتهم رواية غير حقيقية في بداية الحرب التي تركت كثير الحزن على العاملين بالإذاعة دون أن يتخلى أحدهم عن الحرفية والموضوعية المعتادة.
في بداية التسعينات كان يعمل بالقسم العربي زهاء ثمانون شخصا بين مذيع ومنتج وفني وإداري، بعضهم تحول للتلفزيون الوليد الذي أنشأته بي بي سي في عام 1994.
وخططت بي بي سي للاستثمار في أدوات ناشئة فأطلقت موقعها الكتروني ليحل محل منتجاتها الورقية مثل "هنا لندن" و "المستمع العربي" و "المشاهد السياسي".
التوسع خارج لندن
وفي 2003، افتتحت الإذاعة مكتبا لها في القاهرة تزامنا مع بد الحرب على العراق لإسقاط نظام صدام حسين ليكون أول مكتب للخدمة العربية خارج مقرها الرئيس في لندن .
واجهة بوش هاوس
وفي 2008، كانت الإذاعة والموقع العربيان أول الخدمات الأجنبية التي انتقلت وانطلقت من مبنى نيو برودكاستنغ هاوس في لندن من مقرها في بوش هاوس Bush House في شارع ستراند الذي استقرت به منذ عام 1941.
في العام نفسه ومن المقر الجديد أعادت بي بي سي تجربتها التلفزيونية بتدشين تليفزيون بي بي سي نيوز عربي دون أي شراكة مع أي جهة خاصة أو عامة هذه المرة سواء داخل بريطانيا أو خارجها كي تحافظ المؤسسة على استقلاليتها وحيادها وحتى لا تقع تحت أي تأثير من هنا أو هناك.
راديو بي بي سي وسنوات الربيع العربي
بينما كانت الخدمة العالمية تتجه لإغلاق مكتبها في القاهرة في الأسبوع الثالث من يناير لعام 2011، إذ بتظاهرات ضخمة تنطلق في مصر، على غرار مظاهرات تونس قبلها بأسابيع قليلة، للمطالبة برحيل الرئيس حسني مبارك، تماما كما حدث مع الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.
تعيد المؤسسة النظر في قرارها وتعيد تفعيل مكتب القاهرة ليكون راديو بي بي سي عربيا حاضرا بقوة وناقلا عن قرب لنبض الشارع المصري والعربي عبر سنوات الربيع العربي.
لم يفت راديو بي بي سي عربي ، كما تليفزيون بي بي سي عربي، مواكبة تطورات تكنولوجيا الاتصال وظهور وسائل الإعلام الجديدة فاستغل بعضا منها في تقديم خدمته لجمهور جديد ومنها وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك ويوتيوب وتويتر وانستغرام بعد تجارب سابقة لخدمات أجنبية أخرى مع وسائل التواصل الاجتماعي مثل واتساب وغيرها.
وفي 2019 تنقل بي بي سي المزيد من برامجها من المقر الرئيس في لندن ومقرها الفرعي بالقاهرة إلى منفذ إضافي في العاصمة الأردنية عمان ليضيف زخما جديدا للخدمة العربية العريقة.
وفي عام 2022، ومع تنامي الاعتماد على التقنية الرقمية والانتشار الواسع للهاتف المحمول وما حمله من تراجع للتكنولوجيا التناظرية ورغبة في تخفيض الانفاق في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة والاستثمار في الوسائل المفضلة الجمهور المتلقي، تقرر المؤسسة التحول الى خدمة صوتية رقمية على حساب خدمتها الإذاعية التقليدية على موجاتها المعتادة.
ستبقى "هنا لندن بي بي سي" تنطلق بالعربية، لكن ليس كما عهدها جمهورها على مدى 85 عاما عبر جهاز الراديو التقليدي، وإنما عبر منصات الكترونية تتصدرها صفحات أو حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تبعا لاحتياجات جيل جديد من الجمهور، يعتمد التقنية الرقمية وسيلته الأولى في المعرفة والتثقيف والترفيه.