بدأت الشكوك تساور الأميركيين والأوروبيين حيال موقف إيران من مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي، وبدأ القلق يتسرب إلى النفوس، في ضوء الموقف الإيراني المتصف بـ«المماطلة» والتباطؤ، ما أدى إلى جمود المفاوضات وتوقفها منذ يونيو الماضي بعد عدة جولات أوحت بوجود تقدم وإمكانية إعلان الاتفاق. فقد أعطى الأميركيون والأوروبيون إيران «فسحة انتظار وفترة سماح» بسبب الانتخابات الرئاسية وترتيبات المرحلة الانتقالية وإعادة تكوين للطاقم المفاوض مع طرق وآليات تفاوض جديدة. ولكن القيادة الإيرانية الجديدة تأخذ وقتها وليست على عجلة من أمرها. وبعد مرور شهرين ونصف على انتخاب إبراهيم رئيسي خلفا لحسن روحاني لم تعد «حجة» ترتيب المرحلة الانتقالية مقبولة، ولم يعد طلب طهران بشهرين أو ثلاثة أشهر إضافية قبل استئناف المفاوضات مفهوما ومبررا، وهذه «الفرملة» الإيرانية استفزت الدول الغربية التي لا تستطيع أن تبقى في انتظار مفتوح زمنيا، وتخشى حدوث تغييرات وتقلبات قد تطيح بالتقدم الذي أحرز في الأشهر الماضية.
فمن جهة، تواجه الإدارة الأميركية ضغوطا داخلية وأخرى خارجية لرفض التجاوب مع المطالب الإيرانية، وبدأت تدرس «البدائل» ومنها الاستعاضة عن الاتفاق الشامل باتفاق جزئي «انتقالي» تلتزم إيران بموجبه بتجميد الأنشطة النووية الأكثر خطورة وإثارة للجدل، مثل التخصيب عالي النسبة وانتاج معدن اليورانيوم وعودة التفتيش مقابل رفع جزئي للعقوبات الأميركية المفروضة. ومن البدائل أيضا احتمال الإبقاء على العقوبات الأميركية مع السعي لضم الأوروبيين إليها.
ومن جهة مقابلة، تحرز إيران تقدما متسارعا في برنامجها النووي وتتحلل أكثر فأكثر من التزاماتها النووية، وزاد مخزونها حيث باتت تمتلك 10 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، إضافة إلى 84.3 كلغ من اليورانيوم المخصب بدرجة 20%، وكلاهما يشكل انتهاكا صارخا للاتفاق. كذلك، فإن طهران أطلقت إنتاج معدن اليورانيوم الذي ترى الأوساط الغربية أنه لا مبرر عمليا له. وأخيرا، فإن طهران راكمت نحو 2500 كلغ من اليورانيوم ضعيف التخصيب، فيما المتاح لها لا يزيد على 203 كلغ. هذا الوضع دفع بالوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى التنديد بقوة بتصعيد إيران لانتهاكاتها من جهة، ولرفضها التعاون في موضوع الرقابة على برنامجها النووي كما كانت سابقا.
ويضاف إلى ذلك أن هناك تخوفا أميركيا أوروبيا مزدوجا عنوانه الأول أن تذهب طهران بتخصيب اليورانيوم إلى حد إنتاجه بنسبة 90%، وهي النسبة المطلوبة لصنع سلاح نووي. وسبق لمسؤولين إيرانيين أن هددوا باجتياز هذه الخطوة التي ربما لن تعني بالضرورة أن إيران ستعمد إلى الحصول على السلاح النووي، بل أن تتوصل إلى ما يسمى «الحافة النووية». من هنا، التخوف الغربي الثاني من أن غياب الرقابة الأممية لمدة طويلة عن البرنامج النووي بالغ الضرر بذاته. وهو ما يعنيه المسؤولون الأميركيون في كثير من تصريحاتهم، ومنها قول روبرت مالي، وقبله وزير الخارجية انتوني بلينكن، والرئيس جو بايدن، إن نافذة التفاوض لن تكون مفتوحة إلى الأبد، أو أن العودة إلى اتفاق 2015 لن تكون ذات معنى، أو أن تهم الإدارة الأميركية، بمعنى أن إيران تكون قد تجاوزته ميدانيا بأشواط.
الأميركيون والأوروبيون ضاقوا ذرعا بالسلوك الإيراني، ولكنهم مع ذلك لن يتجاوزوا سياسة التنديد ويذهبوا إلى خطوات عملية مثل نقل الملف مجددا إلى مجلس الأمن، وإنما يميلون إلى إعطاء فرصة لاختبار نوايا واستعدادات رئيسي، والى الإبقاء على أفق العودة التفاوض، مع التشديد على أن الكرة استقرت في ملعب إيران، وأن عليها أن تظهر مرونة حيال المطالب الدولية.
ورغم حالة التشكيك والتخوف من أن يؤدي وصول رئيسي إلى تعقيد المفاوضات وإجهاضها، فإن التوقعات ما تزال ترجح استئناف المفاوضات التي تأخرت ولكنها حاصلة والمسألة مسألة وقت. فالتغيير في الرئاسة الإيرانية لا يؤثر على آفاق إحياء الاتفاق لكون المرشد الأعلى علي خامنئي هو من يملك الكلمة الفصل أيا كان الرئيس وتوجهه، وهو لا يريد التخلي عن أفضل أمل له في تخليص بلاده من العقوبات.. فإيران بحاجة ماسة لرفع العقوبات عنها للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة وتداعياتها على المستوى الاجتماعي والمعشي، ولتزخيم حركتها في المنطقة. والرئيس بايدن بحاجة إلى أن يفي بوعوده الانتخابية بإنهاء سياسة ترامب الخارجية، ولاسيما تجاه إيران، وأن أي تراجع عن مسار العودة إلى الاتفاق النووي يسجل إخفاقا له. وبعد خطوة الانسحاب من أفغانستان الذي أدى إلى تدهور شعبيته تأتي خطوة الاتفاق مع إيران.