الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع دقيق يشبه المأزق. التقدم الى الأمام، أي الى الحسم العسكري، يعني المزيد من إراقة الدماء والتدمير والأرض المحروقة وحرب المدن والشوارع والعقوبات والحصار المالي والاقتصادي، بعدما جاءت الوقائع على الأرض غير متطابقة أو غير متناسبة مع التقديرات التي لم تلحظ مقاومة أوكرانية شديدة ومشاكل لوجستية للقوات الروسية ودعما أوروبيا وأميركيا مفتوحا بالسلاح والمال ما عدا الرجال.
أما التراجع الى الوراء، أي وقف الحرب وسحب القوات الروسية ونقل الأزمة الى طاولة المفاوضات والتسوية، فإنه يبدو خيارا أصعب وأكثر كلفة من الناحية الاستراتيجية، لأن معركة أوكرانيا لا تحدد فقط مصير بوتين كرئيس لروسيا، وإنما تحدد مصير ومستقبل روسيا، لأن عدم قدرتها على الحسم وتسليمها بعدم إمكانية الحل العسكري للأزمة يضعها في موقف ضعيف، لن تكون فيه قادرة على فرض شروطها، وسينتهي بها الأمر الى الانكفاء على نفسها والانتهاء كلاعب دولي محوري وأساسي.
ولذلك ليس أمام بوتين إلا الاستمرار في الحرب الى أن تحقق أهدافها وتصبح موسكو قادرة على فرض شروطها. ومن المستبعد أن يعطي بوتين وعدا أو يطلق إشارة حاسمة بوقف الحرب طالما أنه لم يحقق بعد أيا من أهدافه في أوكرانيا، ولا يمتلك بعد الأوراق التي تمكنه من فرض شروطه على أوكرانيا. ولذلك، فإن المفاوضات تراوح في مكانها تحت سقف منخفض للتوقعات المرتقبة، ووصلت عمليا، وبعد قليل على انطلاقتها، الى طريق مسدود.
أما شروط موسكو لوقف الحرب، فهي: إنهاء هيمنة القوميين المتشددين على الدولة الأوكرانية. ـ ضمان وضع محايد لأوكرانيا ونزع سلاحها ـ تخلي أوكرانيا والغرب عن فكرة انضمامها الى الحلف الأطلسي. ـ الاعتراف بالسيادة الروسية على «شبه جزيرة القرم»، وكذلك الاعتراف باستقلال الجمهوريتين الانفصاليتين ـ شرق البلاد ـ الحصول على ضمانات رسمية من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بمنع توسع الحلف نحو الشرق، وعدم نشر أسلحة هجومية بالقرب من الحدود الروسية، وإعادة القدرات العسكرية والبنية التحتية للحلف الى الوضع الذي كان عليه في العام 1997 عندما تم التوقيع على القانون التأسيسي للعلاقات المشتركة والتعاون والأمن بين روسيا وحلف «الناتو».
هذه الشروط لا تصلح في نظر أوكرانيا «وفي نظر الغرب أيضا» أساسا للتفاوض، وإنما هي أقرب الى «شروط استسلام»، والأخذ بها يعني التسليم بخطة بوتين لإخضاع أوكرانيا ووضع اليد عليها عبر «رئيس حليف وتابع»، بعدما يكون زيلنسكي دفع ثمن الحرب والخسارة.
الرئيس الأوكراني زيلنيسكي أيضا في مأزق... التراجع الى الوراء، أي القبول بالشروط الروسية لوقف الحرب، يعني أنه كتب نهايته ونهاية أوكرانيا كدولة مستقلة ذات سيادة وطامحة الى التوجه غربا والانضمام الى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، والتقدم الى الأمام، أي الاستمرار في الحرب، سيكون مكلفا جدا على صعيد الخسائر البشرية والمادية، في ظل أسلوب تدميري يتبعه الروس واستعدادهم للمضي قدما مهما كلف الأمر، وفي ظل موقف أوروبي وأميركي غير كاف لوقف الهجوم الروسي. هذا الموقف أظهر كل دعم وتعاطف مع أوكرانيا، ولكنه مازال يحاذر المواجهة وخطر الانزلاق الى الحرب المباشرة مع روسيا.
الأوروبيون يتفادون ضم أوكرانيا الى الاتحاد الأوروبي ويرون أنها لا تستوفي شروط العضوية. والأميركيون لا يريدون أوكرانيا أن تنضم الى الحلف الأطلسي ويتحاشون التورط في أي موقف أو إجراء يمكن أن يجر الى التدخل العسكري وإرسال قوات الى أوكرانيا، والى أن يصبح الحلف الأطلسي طرفا في النزاع.
النتيجة أن الحرب ستظل حربا بالوكالة بين روسيا وحلف الأطلسي عبر أوكرانيا وعلى أرضها، وأن الحرب ستكون صعبة وطويلة مدمرة ومكلفة وتفتح مرحلة جديدة في العالم، وستعيد صياغة النظام الأمني الأوروبي على أسس جديدة و«بالدم» مرة جديدة.