جيفري كمب
مع الارتفاع الكبير الذي تشهده أسعار النفط وتجاوزها حاجز 90 دولارا للبرميل الواحد، ومع الاضطرابات السائدة الحالية في السوق العقاري الأميركي، فضلا عن استمرار العجز في الميزان التجاري الأميركي وانخفاض سعر الدولار إلى أدنى مستوياته مقارنة مع اليورو والجنيه الاسترليني تحول الاقتصاد إلى صدارة النقاش السياسي في الولايات المتحدة، بل واحتل مكان العراق في اهتمام وانشغالات الرأي العام الأميركي. ويُعزى ذلك في جزء كبير منه إلى تحسن الوضع العراقي نسبيا، لاسيما أن عدد الضحايا الأميركيين الذين يسقطون يوميا في ساحة المواجهات، تراجع خلال الشهور الأخيرة.
بيد أن هناك أسبابا موضوعية دفعت الأميركيين إلى الانشغال بالقضايا الاقتصادية أكثر من غيرها والاهتمام برخائهم المادي ومستقبلهم الوظيفي أكثر مما يحدث في بغداد أو البصرة. وفي هذا الإطار أعتقد أنه يتعين على العالم أيضا إبداء قلقه من طائفة المصاعب الواسعة التي يواجهها الاقتصاد الأميركي في هذه الفترة، خصوصا أن أي تراجع أو ركود يصيب أكبر اقتصاد في العالم، سيمتد أثره إلى باقي الاقتصادات الأخرى في أنحاء العالم. فطوال سنوات عديدة، دأبت الولايات المتحدة على العيش فوق إمكانياتها الحقيقية وممارسة إنفاق ترفي يتجاوز مستوى إنتاجها، حيث لجأت الحكومة والمستهلكون على حد سواء إلى اقتراض مبالغ مالية كبيرة بغرض تمويل الإنفاق الزائد وتغطية العجوزات المتنامية. وقد ساعدت على ذلك مجموعة من العوامل الاقتصادية التي بعثت التفاؤل في الاقتصاد الأميركي وشجعت على الاستهلاك مثل نسب الفائدة المنخفضة طيلة العقد الأخير، وارتفاع إنتاجية العامل الأميركي على نحو غير مسبوق. وفيما واصل الاقتصاد الأميركي نموه مصحوبا بانتعاش ملحوظ في السوق العقاري، شعر الأميركيون بأنهم قادرون على الاقتراض بفضل القيمة المرتفعة لمنازلهم وتمويلها للمشتريات الفخمة مثل السيارات الكبيرة والباهظة والعطلات البعيدة والغريبة. لكن مع انهيار السوق العقاري بسبب عجز الأفراد عن تسديد أقساط الرهن العقاري، لاحظنا أن موجة من الخوف عمّت الأسواق العالمية وساد الارتباك في النظام المالي العالمي، ولم يعد أحد يعرف متى ستنتهي هذه الأزمة لتعود الأمور إلى مجراها الاعتيادي. وبالإضافة إلى انهيار السوق العقاري في أميركا وارتفاع أسعار النفط، ظهرت أيضا مخاوف أخرى مرتبطة بشبح ارتفاع الأسعار الذي سيقود بدوره في حال استفحاله إلى نسبة تضخم عالية تلحق المزيد من الضرر بالاقتصادين الأميركي والعالمي. وفي هذه الحالة من المؤكد أن ثقة المستهلك الأميركي في اقتصاد بلاده ستتراجع كثيرا، ليظل عام 2008 مفتوحا أمام احتمال تراجع معدل النمو ودخول الاقتصاد الأميركي في مرحلة الركود مجددا. وبالطبع سيكون الأميركيون أول من سيتأثر بالركود الاقتصادي المتوقع من خلال تراجع المستوى المعيشي والتخلي عن بعض الامتيازات. بيد أن التأثير السلبي للركود الاقتصادي لن ينحصر في الولايات المتحدة فحسب، بل سيمتد أيضا إلى باقي دول العالم، لاسيما البلدان الآسيوية التي يعتمد اقتصادها على التصدير. وغني عن القول إن ركودا اقتصاديا سيلحق أفدح الضرر باقتصاديات الدول الآسيوية وستتأثر جميع الفئات المجتمعية، خاصة الفقيرة التي تعيش في الأرياف والطبقات المتوسطة التي تقيم في المدن، ناهيك عن تراجع معدلات الاستثمار وتضرر القطاعين السياحي والتجاري. وإذا ما انفجرت فقاعة الاقتصاد الصيني بسبب ضعف بنيتها المالية وانحسار صادراتها إلى الأسواق العالمية، فستكون التداعيات السياسية على الصين والمنطقة خطيرة للغاية، وقد تزعزع استقرار جنوب شرق آسيا برمته. بعبارة أخرى إذا ما انحدر الاقتصاد الأميركي إلى ركود فعلي وباتت الأزمة أكبر من أن تُطوق مفاعيلها، فستمتد الأزمة إلى الاقتصاد العالمي الذي ستتراجع أيضا معدلات نموه. وبالطبع سيقود تباطؤ الاقتصاد العالمي إلى تراجع الطلب على النفط بسبب ضعف الإنتاج وانحسار التصدير وهو ما سيترتب عليه بالضرورة انخفاض في أسعار النفط. هذا الانخفاض المتوقع في أسعار النفط ستكون له عواقب وخيمة على الدول المنتجة، لاسيما تلك التي تملك كثافة سكانية كبيرة ونسبة فقر مرتفعة مثل إندونيسيا ونيجيريا وروسيا وإيران وڤنزويلا. وعلى ضوء هذه الآفاق القاتمة التي تنتظر الاقتصاد العالمي في حال انكماش الاقتصاد الأميركي، فإنه من الأفضل لروسيا وإيران تغيير سياستهما الهجومية ودبلوماسيتهما المتشنجة والتوصل إلى تفاهمات لا تستفز الدول المجاورة.
أما في الولايات المتحدة فلا شك أن المصاعب الاقتصادية المخيمة على الأجواء ستلقي بظلالها على الانتخابات الرئاسية التي ستجري في العام المقبل. فالواقع يقول إن «الديموقراطيين» سيلجأون، في حال تباطؤ الاقتصاد الأميركي، إلى تحميل المسؤولية للإدارة الأميركية التي أنفقت بصورة كبيرة على الحرب في العراق وأفغانستان ما تسبب في عجز الموازنة، وإضعاف الدولار وزعزعة الثقة بالاقتصاد الأميركي. وفيما يتعلق بالمواقف الأميركية من الخارج سيعزز التراجع الاقتصادي الأصوات، سواء في اليمين أو اليسار، المطالبة بتقليص التمدد الأميركي العالمي والاهتمام أكثر بالتزامات واشنطن إزاء حلفائها الأوروبيين ودول شرق آسيا والخليج العربي، حيث الاقتصاد أكثر صلابة من المناطق الأخرى وأكثر قدرة على توفير الأموال الضرورية لتعزيز قدراتهم الدفاعية. ولا يعني ذلك أن أميركا ستتخلى عن التزاماتها الدولية، بل هي مجرد دعوة لتقاسم عادل للمسؤولية الأمنية والدفاعية، كما أنها تأكيد على أن أميركا لا تستطيع لوحدها الانتشار في مناطق عديدة، ولن تكون المهيمن العالمي. ومع أن بعض الفاعلين الدوليين سيرتاحون لهذه النتيجة التي تقلص من الهيمنة الأميركية، إلا أن معظم حلفاء أميركا سيشعرون بالقلق. فما أن تختفي القوة الأميركية، أو تتراجع عن الساحة الدولية حتى تتسابق القوى الأخرى لسد الفراغ، مع ما سينتج عن ذلك من زعزعة للاستقرار في أوروبا وشرق آسيا ومنطقة الخليج العربي. والأكثر من ذلك أن تراجع الحضور الأميركي سيؤدي إلى ظهور صراعات جديدة بين القوى الناشئة، ما قد يهدد بتقويض السلم والأمن الدوليين.
عن وول ستريت جورنال
صفحة قضايا في ملف ( pdf )