- غورباتشيف صدم مسؤولي ألمانيا الشرقية الذين تفاءلوا بحضوره فخاطبهم قائلاً: إن الذين يتخلفون تعاقبهم الحياة نفسها!
بقلم: محمد الحسيني
كان جدار برلين قبل هدمه أبرز تجسيد لحال العداء والكراهية وحدّة الفصل بين المعسكرين الغربي والشرقي إبان الحرب الباردة.
رغم انفتاح غورباتشيف على الغرب وتسليمه بضرورة الإصلاح، ظلت ألمانيا الشرقية تحاول ان تكون الحصن المنيع للشيوعية أمام الغرب في الجولة الأخيرة من الصراع معه، ولذلك عندما سقط جدار برلين فقد جسد انهياره نهاية مرحلة وبداية أخرى، مرحلة غيرت مسار التاريخ ليسلك وجهة جديدة.
من هنا يشكل الطريق إلى سقوط الجدار بحد ذاته ثورة حقيقية كانت أبرز ثورات القرن العشرين، فجدار برلين كان الحدود بين الألمانيتين، وبين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وبين العالمين الغربي والشرقي، وبين الحلفين الجبارين: الناتو ووارسو، وسقوطه كان رصاصة الرحمة التي أعلنت هزيمة المعسكر الشرقي رسميا.
بُني الجدار في 13 أغسطس 1961 ليكون حدا بين الألمانيتين.
خلال الحرب العالمية الثانية وبموجب اتفاقية «يالطا» (في شبه جزيرة القرم بأوكرانيا) التي وقع عليها كل من ستالين (الاتحاد السوفييتي) وتشرشل (بريطانيا) وروزفلت (الولايات المتحدة)، عام 1941 قرر الحلفاء تقسيم ألمانيا بعد نهاية الحرب الى 4 أجزاء بين الدول الثلاث وفرنسا وكذلك برلين على ان تكون مقاطعة مستقلة.
وبعد الحرب توحدت الأجزاء التابعة لفرنسا وبريطانيا واميركا، فيما سمي المانيا الغربية (جمهورية المانيا الاتحادية) عام 1949، وتزامن ذلك مع انطلاق الشرارات الأولى للحرب الباردة التي كانت خلالها برلين مسرحا لأنشطة الاستخبارات الشرقية والغربية، فقامت بالمقابل دولة المانيا الشرقية (جمهورية المانيا الديموقراطية) على القسم السوفييتي، كان من المفترض ان برلين كيان مستقل عن الدولتين الجديدتين ولكن التقسيم فرض نفسه وشطر العاصمة الى جزأين تنازعتهما الدولتان.
وتحولت برلين الى ممر لهروب المواطنين الشرقيين الى الجزء الغربي رغم المجهودات لبناء شرطة حدود وحرس ووضع سياجات حدودية، كل هذه الجهود لم تنجح وحتى 1961 كان قد فر من المانيا الشرقية الى الجزء الغربي نحو 3 ملايين مواطن، فقررت السلطات الشرقية عندها بناء جدار الفصل وأعطت الأوامر لحرس الحدود بإطلاق النار على كل من يحاول التسلل متجاوزا الجدار سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا، فراح ضحية ذلك 239 شخصا قتلوا على مرأى الجميع، كما فرضت عقوبات سجن تصل الى المؤبد لمن يساعد على تنظيم عمليات الفرار، أو من يحاول الهروب وهو مزود بالسلاح، وقد فتحت تحقيقات واسعة جرت قادة المانيا الشرقية الى المحاكمة بعد سقوط الجدار ولم تطو الصفحة الى اليوم مع ظهور وثائق بين فترة وأخرى تشير الى تورط بعض القادة في جهاز «ستازي» (جهاز امن الدولة في المانيا الشرقية) في اعطاء الأوامر المباشرة بتصفية من كان يحاول الفرار، وذلك بعلم القيادة العليا في البلد، ومن قدم شهادته من الجنود أكد انه كان ينفذ أوامر عليا لا أكثر.
وعلى الرغم من ان المانيا الشرقية تحاول ان تظهر للعالم في صورة البلد المتطور والغني وصاحب الاقتصاد القوي إلا أن الوضع لم يكن كذلك في الحقيقة، وقد تأكد الأمر مع بداية انهيار الاتحاد السوفييتي ونشوء الحركات الاستقلالية في دول الاتحاد وارتفاع أصوات التغيير في مختلف بلدان المعسكر الشرقي، وجاءت عمليات الهروب الجماعي من تشيكوسلوفاكيا مع فتح الحدود على النمسا عام 1989 لتؤكد للألمان الشرقيين كما أكدت للتشيكوسلوفاكيين حينها سوء أوضاعهم في ظل ما كانوا يعيشونه من كبت وسيطرة للحزب الحاكم، وعندما حاول الألمان الشرقيون القيام بنفس الأمر عبر تشيكوسلوفاكيا واعترضتهم السلطات تظاهر الآلاف منهم أمام مبنى السفارة الألمانية في براغ، ما ترك تأثيرا كبيرا على الثوار التشيك أنفسهم. حيث شعروا بتشابه المعاناة والقضية وضغطوا حتى يُسمح للألمان الشرقيين بالمغادرة غربا أيضا.
وخلال أقل من شهرين وصل نحو 50 ألف الماني شرقي الى المانيا الغربية وهو ما وضع سلطات المانيا الشرقية في موقف حرج، فنظامها كان يتابع ما يجري حوله من تغيير خاصة في الاتحاد السوفييتي، وزاد قلقه عندما بدأ آلاف المواطنين يتدفقون الى الشوارع بداية من مدينة لايبزغ في 25 سبتمبر 1989 ومن ثم في برلين نفسها للاحتجاج والهتاف ضد السلطة.
وكان زعيم المانيا الشرقية حينها اريش هونيكير يعول على دعم السوفييت، لكن زيارة قام بها غورباتشيف الى المانيا الشرقية أتت بنتائج عكسية بالنسبة إليه، حيث جاء الزعيم السوفييتي في بداية أكتوبر ولم ينتقد التظاهرات، بل حذر من ان «الذين يتخلفون تعاقبهم الحياة نفسها» فراحت الجماهير تهتف باسمه وتؤكد انه أعطى المؤشرات الى فتح باب الحريات أمام الشعب.
أدى عدم السيطرة على التظاهرات الى عزل هونيكير من منصبه من قبل المكتب السياسي للحزب الحاكم وحل محله ايغون غرينتز الذي رغم انه وعد بالتغيير رفض مطالب المتظاهرين بإجراء انتخابات حرة والسماح بالتعددية الحزبية والحرية الإعلامية.
لم يؤد تصلبه الا الى المزيد من التصعيد في الشارع، وفي 4 نوفمبر 1989 احتشد نصف مليون متظاهر في ساحة الكسندر وصبوا جام غضبهم على الرئيس الذي سارع الى الاتصال بغورباتشيف طالبا نصيحته فأوعز اليه الأخير بفتح الحدود.
فأعلنت الحكومة السماح للمواطنين بزيارة الغرب اعتبارا من 9 نوفمبر، وسارعت اجهزة الـ «ستازي» الى فتح نقاط العبور بين الألمانيتين.
وبدأت عملية هدم الجدار في ذلك التاريخ والتي مهدت لتوحيد شطري المانيا لاحقا في 18/3/1990.
لم يبق من الجدار اليوم ألا أجزاء جرى الإبقاء عليها للذكرى أو بقايا تباع للسياح الذين يرغبون في اقتناء ما يدل على ذلك السور العازل الذي كان أبرز شاهد على التاريخ.
تسببت اعادة التوحيد في عبء كبير على اقتصاد المانيا الغربية وعلى ازدياد البطالة فيها في ظل تدفق مئات آلاف العمال، وحتى اليوم مازالت هناك فروقات في مستويات المعيشة بين الجانبين، وهناك في كل منهما احداث تندد الى اليوم بإعادة التوحيد، حيث يربط بعض الألمان الغربيين سوء أوضاعهم ويحن بعض الألمان الشرقيين لأيام الاشتراكية، ولكن في المقابل يرى آخرون ان المانيا بإعادة توحدها عادت دولة عظمى ويتحدثون عن إيجابيات كثيرة للعملية، منها النهوض الذي حصل في الشطر الشرقي وفي المقابل المساهمات التي وفرتها اليد العاملة الشرقية في الجانب الغربي، والتي كانت أساسا في عملية التنمية والأهم كان عملية لم الشمل بين أبناء الشعب الواحد.
الجدار في سطور
بلغ طول جدار برلين بحسب موسوعة «المعرفة» 165.7 كيلومترا مع 210 قلعات تضمن مراقبة المتسللين، وقد وضعت على بعض اجزائه أسلاك شائكة يبلغ طولها 55.4 كيلومترا، وكان ارتفاعه 3.2 أمتار.
وكلف بحراسته على مدار الساعة 14 ألف شخص معززون بـ 600 كلب بوليسي.
وخلال تاريخ الجدار تم اطلاق 1693 طلقة نارية صوب المتسللين.
وقد نجح 5043 شخصا في عبوره واللجوء إلى ألمانيا الغربية من بينهم 574 عسكريا، كما تم القبض على 3221 شخصا من المتسللين وقتل 239 شخصا وجرح 260 شخصا آخرون.
ثورات الربيع
من صراع القوميات الذي تصاعد إلى حربين عالميتين، إلى صراع الأيديولوجيا الذي أدخل العالم في حرب باردة بين «الجبارين»، وصولا الى ما يسمى بعصر القطب الواحد والعولمة، شهد العالم ثورات وانتفاضات شعبية لن تُنسى لاسيما تلك التي اتسمت بالطابع السلمي.
بعد انتصارها في الحرب الباردة واجهت الولايات المتحدة عمليات استهداف معادية من جماعات إسلامية سبق ان دعمتها أميركا في حربها الضروس ضد الاتحاد السوفييتي في افغانستان. وصلت حركة طالبان إلى السلطة في افغانستان عام 1994، ووفرت ملاذا آمنا لتنظيم «القاعدة» الذي أسسه أسامة بن لادن بين عامي 1988 و1989 أعلن حربه رسميا على الولايات المتحدة، وأولى عملياته البارزة كانت محاولة تفجير برج التجارة العالمي في 1993، ثم استهدف السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا عام 1998، قبل أن ينفذ هجمات 11 سبتمبر التي كرست عمليا نظرية كان قد أطلقها استاذ العلوم السياسية صامويل هنتنجتون عام 1993 عن «صراع الحضارات» اعتبر فيها أنه بعد الحرب الباردة ستكون المواجهة الأعنف على أساس الحضارة، مستعرضا عددا من المواجهات المحتملة للحضارة الغربية مع الاسلام والحضارتين الصينية والاندوكية (الهندية).
مسار الأحداث والصراع بين «القاعدة» والغرب أعطى النظرية زخما منقطع النظير ودارت نقاشات مطولة، غالبا ما كانت تنتهي إلى أن المجتمعات الإسلامية ممانعة بحضارتها وموروثاتها للديموقراطية، مستشهدين بالثورة الإيرانية التي لم تفض إلى ديموقراطية بمفهومها الغربي رغم سلميتها، واستبعد كثير من الخبراء وبينهم هنتنجتون أن يشهد العالم العربي ثورات شبيهة بتلك الثورات التي حررت دول أوروبا الشرقية قبل وبعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي.
رحل هنتنجتون عام 2008 قبل 3 سنوات من أحداث اجتاحت فجأة العالم العربي فيها الكثير من سمات الحركات التحررية والديموقراطية السلمية التي سبق ان شهدها الغرب بدءا من أحداث 1968 في فرنسا إلى ربيع براغ ثم سقوط الجدار، كما لم يشهد قبل وفاته أحداث النرويج في 22 يوليو 2011 والتي تؤكد أن اليمين المسيحي ليس بأقل تطرفاً من اليمين الإسلامي.
ارجاء كثيرة من العالم العربي المسلم بغالبيته شهدت خروج ملايين الشباب إلى الشوارع بحماس منقطع النظير، بدأ في تونس وامتد الى دول أخرى تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» مستفيدين من ثورة التكنولوجيا القادمة من الغرب والإعلام الجديد الذي قدمته شبكة الإنترنت.
قوبلت الثورات بترحيب غربي وبذلت الدول الغربية وسفاراتها جهودا كبيرة على غرار تلك التي بذلتها في نهاية الثمانينيات في أوروبا الشرقية.
وحاولت مساعدة الثوار في أكثر من حالة كان أوضحها ليبيا على تشكيل سلطة مؤقتة بديلة تتولى المرحلة الانتقالية خلال وبعد سقوط النظام.
بمناسبة ما أطلق عليه «الربيع العربي» نستعيد بالذاكرة بعض الثورات المشابهة في اوروبا والعالم خلال العقود الماضية منها الثورة المخملية في تشيكوسلوڤاكيا والثورة الوردية في جورجيا والبرتقالية في أوكرانيا وثورة التوليب في قيرغيزيا وثورة البلدوزر في صربيا وثورة الغناء في دول البلطيق، إضافة إلى بعض تجارب القرن الماضي في مجال النضال السلمي للحركات التحررية وصولا إلى الثورات العربية.
واقرأ ايضاً:
الحلقة الأولى: ثورة تشيكوسلوفاكيا المخملية غيّرت وجه أوروبا
الحلقة الثانية: بالغناء خاضت دول البلطيق ثورتها وتحررت من الاتحاد السوفييتي
الحلقة الثالثة: «ثورة البلدوزر» أطاحت بميلوسيفيتش أكبر ديكتاتوريي العصر الحديث
الحلقة الرابعة: بالورود وشعار «كفاية» أطاحت الثورة الوردية بنظام شيفرنادزه في جورجيا
الحلقة الخامسة: ثورة أوكرانيا البرتقالية.. أنشودة ديموقراطية عابرة؟