- الأزمة الاقتصادية وتراكم الديون الخارجية كانت بداية النهاية لنظام الرئيس دولاروا
بقلم: محمد الحسيني
موضوعا اليوم والغد لا يتحدثان عن ثورتين مكتملتين أحدثتا انقلابا وانما عن انتفاضتين تاريخيتين اقتربتا من مفهوم الثورة ويصلح ان تعتمدا كمرجع في ردة فعل الشعوب في مواجهة الضغوط السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهما أحداث 1968 التاريخية في فرنسا وأحداث 2001 في الأرجنتين.
وتابع العالم بذهول كيف أطاحت انتفاضة الجياع في الأرجنتين والتي تسمى رسميا بـ «أحداث 2001» برئيس الجمهورية «فرناندو دولاروا» الذي تقدم باستقالته في 20 ديسمبر 2001 وسبقت استقالة الرئيس أعمال شغب ونهب في العاصمة بوينس آيرس والمدن الكبرى راح ضحيتها 26 قتيلا وتظاهرات رفع فيها المتظاهرون الطناجر وأرغفة الخبز وأعطوا لتحركهم اسم «ثورة الجياع»، كما تلقى دولاروا قبل تنحيه استقالة عدد من المسؤولين في الدولة أبرزهم وزير الاقتصاد »دومينغو كافالو».
المشاهد التي نقلت للعالم عن الفقراء وهم يجتاحون المحلات الأجنبية وخاصة الأميركية ومقرات البنوك والشركات الكبرى تركت تأثيرا كبيرا في النفوس، وترافقت الأحداث مع بعض الأخبار المأساوية منها انتحار امرأة وزوجها بعد ان تعرض محلهما للنهب والحرق.
وهكذا كان العالم يوميا يتابع ما يجري في البلد الذي يحفظ كل الناس حول العالم تألق منتخبه ونجومه في كرة القدم ويرسمون له صورة مختلفة في أذهانهم.
يمكن القول ان أسباب «ثورة الجياع» في الأرجنتين كانت اقتصادية بامتياز، فقد عجز الرئيس دولاروا عن احتواء الأزمة الاقتصادية التي كانت تعصف بالبلاد منذ سنوات عديدة وأدت الى تراكم ديون الأرجنتين الخارجية حتى وصلت الى 132 مليار دولار وارتفعت معها البطالة الى أكثر من 20% وانهارت الطبقة الوسطى التي كانت تتباهى يوما بأنها الأهم في أميركا اللاتينية، وبحسب الأرقام التي أعلنت فيها فإن 14 مليونا من اصل سكان البلاد الـ 36 مليونا كانوا تحت خط الفقر ويعيشون على أقل من 4 دولارات في اليوم. بعد أزمة التضخم في الثمانينيات عمدت الأرجنتين بناء على توجيهات من صندوق النقد الدولي الى ربط عملتها «البيزو» بالدولار الأميركي وثبتت سعره بنسبة 1 الى 1 وهو ما أفقد البلاد السيطرة الكاملة على سياستها النقدية وقد استمرت في تحمل هذه السياسة التي أضرت الى حد كبير بقدرات البلاد التصديرية لاسيما في فترات ارتفاع الدولار كونها المورد الرئيسي للعملات الصعبة التي تعزز الاحتياطي المصرفي للبلاد.
في 1999 وصل الرئيس دولاروا الى السلطة بتحالف ضعيف بمواجهة المعارضة البيرونية في الانتخابات الرئاسية لمواجهة الزعيم البيروني ادواردو دوهالدي دون ان يحظى بغالبية داعمة له سواء في مجلسي الشيوخ والنواب أو في الانتخابات المحلية للمحافظات والمدن الكبرى وبينها العاصمة التي كان حضور المعارضة فيها أقوى.
بدأ التدهور عندما أقدم الوزير كافالو على فرض مجموعة اجراءات مشددة للحد من سحب الودائع من البنوك بعدما شهد العام 2001 سحب نحو 25% من اجمالي الودائع، وكان الهدف من العملية تنظيم أوضاع المصارف وتهدئة الأسواق المالية خلال 3 أشهر كان من المفترض خلالها ان تتم عملية اعادة جدولة جزء من ديون البلاد واستبدالها بسندات جديدة بفائدة أقل للتخفيف من خدمة الدين العام.
واجهت الحكومة أمام هذا الواقع مشكلتين رئيسيتين: الأولى شيوع أنباء عن وجود عمليات فساد في عملية «تحويل الديون»، والثانية هي انه رغم استمرار البنوك في عمليات الصرف وامكانية استخدام الناس لبطاقات الائتمان والشيكات إلا أن طوابير الناس أمام البنوك وتقنين عمليات السحب ووضع سقوف لها كانت مؤشرات أكدت للناس ان «الأسوأ« بانتظارهم.
ولم يجدوا أمامهم سوى الخروج الى الشوارع للاحتجاج، وساهمت المعارضة في تأجيج الشارع خاصة في مناطق نفوذها وانتشارها لاسيما في العاصمة. حاول الرئيس اللجوء الى الجيش للتدخل في فرض الأمن، ولكن قادة الجيش ربطوا تدخلهم بصدور من البرلمان (الكونغرس بمجلسيه)، وكان ذلك بالتأكيد مستحيلا نظرا لسيطرة المعارضة على المجلس، وبذلك لم يكن أمام الرئيس سوى «إعلان حالة الطوارئ» والاكتفاء بالاعتماد على قوات الشرطة والحرس الوطني وحرس السواحل في عملية ضبط الأمن والحد من الشغب وقد أعلن ذلك في خطاب للشعب دعا فيه المعارضة الى تشكيل حكومة وحدة وطنية لمواجهة الأزمة، لكن المعارضة سارعت الى رفض الطلب. بعد الخطاب مباشرة حمل آلاف الناس طناجرهم وخرجوا الى الشوارع وتجمعوا في ساحة «ثورة مايو» في وسط العاصمة مساء 19 ديسمبر.
وفي اليوم التالي لم يؤد الإعلان عن استقالة وزير الاقتصاد الى تهدئة الناس، فأعلن الرئيس عن تقديم حصص غذائية مجانية للجوعى عبر وزارة الشؤون الاجتماعية، لكن ذلك لم يهدئ من أعمال الشغب واتساع المظاهرات التي تولت وسائل الإعلام المستقلة وتلك التابعة للمعارضة نقلها مباشرة، حاول دولاروا فرض رقابة على تلك الوسائل وأمر بمحاصرتها، لكن وزير الإعلام رفض تحمل هذه المسؤولية.
دفعت الثورة الشعبية الرئيس بعدما استنفد كل الفرص المتاحة للحل الى تقديم استقالته الى الكونغرس كبادرة حسن نية ديموقراطية، وبقبول استقالته شغر منصب الرئاسة نظرا لكون نائب الرئيس كارلوس الفاريز كان قد استقال في وقت سابق للأزمة.
لسد الفراغ تولى رئيس مجلس الشيوخ رامون بويرتا الرئاسة لحين عقد أول جلسة للكونغرس لتعيين رئيس في هذه الحالة من بين أعضائه أو من حكام الولايات وقد وقع الخيار على حاكم ولاية «سان لويس» أدولفو رودريغيز في 22 ديسمبر وقد حددت ولايته بـ 3 أشهر كان يجب الإعداد خلالها لانتخابات رئاسية جديدة.
كان رودريغيز يطمح للبقاء في الرئاسة لذلك ومنذ تسلمه السلطة أعلن عن سلسلة قرارات شعبية كان أبرزها إعلان «توقف بلاده» عن سداد ديونها الخارجية لتصبح الأرجنتين الدولة التي تتخلف عن سداد اكبر حجم ديون خارجية في التاريخ.
كما أعلن عن نيته ضخ عملة ثالثة غير البيزو والدولار في الأسواق لتعزيز الاستهلاك وعن الغاء حالة الطوارئ التي كان قد أعلنها سلفه، ورغم القبول الشعبي للقرارات تواصلت أعمال العنف. وفي 30 ديسمبر اجتاح متظاهرون مقر البرلمان وأحرقوا أثاثه فدعا رودريغيز الى اجتماع لحكام الولايات التابعين للحزب البيروني وعددهم 14 لكن لم يحضر إلا 5 منهم، فأعقب الاجتماع بتقديم استقالته.
ومع رفض بويرتا تولي الرئاسة مؤقتا مقابل استغنائه عن منصب رئيس مجلس الشيوخ وبشغور منصب الرئيس ونائبه والرئيس المؤقت تولى هذا المنصب رئيس مجلس النواب إدواردو كامانو لمدة يومين حيث، انعقد الكونغرس في 1 يناير 2002 وانتخب السيناتور البيروني ادوارد دوهالدي الذي كان قد خسر أمام دولاروا في الانتخابات الرئاسية ليكمل ولايته حتى 2003 وبذلك كان دوهالدي خامس رئيس تعرفه الأرجنتين في أسبوعين.
ومع وصول دوهالدي الى السلطة تعهد بإنقاذ الأرجنتين من الأزمة رغم ان «الدولة لم تعد تمتلك قرشا واحدا لدفع الرواتب والأجور».
ساهم وجود دوهالدي في تحرك أكثر فعالية لقوات الأمن ولكنه لم يجد هو ووزير الاقتصاد الجديد خورخي ريميز سوى تشديد الاجراءات الاقتصادية الصعبة ومنها تحويل إلزامي للودائع بالدولار الى البيزو بسعر محدد، ثم عمد الوزير الى اجراء تخفيض تدريجي لقيمة العملة التي ما لبثت مع فقدان الثقة ان انهارت قبل ان يتولى الرئاسة الرئيس نستور كيرشنر (زوج الرئيسة الحالية) ويتمكن من اعادة بث الحياة في ثاني اكبر اقتصاد في أميركا الجنوبية.
لقد تركت احداث 2001 اثرا كبيرا في الذاكرة العالمية، وقد تم استحضارها بقوة بعد ازمة ديون اليونان السيادية وخروج اليونانيين الى الشارع في 2011 ثم الإسبان في مواجهة ازمة ديون اوروبا.
كما تركت اثرا كبيرا على الحياة السياسية في الارجنتين نفسها.
ثورات الربيع
من صراع القوميات الذي تصاعد إلى حربين عالميتين، إلى صراع الأيديولوجيا الذي أدخل العالم في حرب باردة بين «الجبارين»، وصولا الى ما يسمى بعصر القطب الواحد والعولمة، شهد العالم ثورات وانتفاضات شعبية لن تُنسى لاسيما تلك التي اتسمت بالطابع السلمي.
بعد انتصارها في الحرب الباردة واجهت الولايات المتحدة عمليات استهداف معادية من جماعات إسلامية سبق ان دعمتها أميركا في حربها الضروس ضد الاتحاد السوفييتي في افغانستان. وصلت حركة طالبان إلى السلطة في افغانستان عام 1994، ووفرت ملاذا آمنا لتنظيم «القاعدة» الذي أسسه أسامة بن لادن بين عامي 1988 و1989 أعلن حربه رسميا على الولايات المتحدة، وأولى عملياته البارزة كانت محاولة تفجير برج التجارة العالمي في 1993، ثم استهدف السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا عام 1998، قبل أن ينفذ هجمات 11 سبتمبر التي كرست عمليا نظرية كان قد أطلقها استاذ العلوم السياسية صامويل هنتنجتون عام 1993 عن «صراع الحضارات» اعتبر فيها أنه بعد الحرب الباردة ستكون المواجهة الأعنف على أساس الحضارة، مستعرضا عددا من المواجهات المحتملة للحضارة الغربية مع الاسلام والحضارتين الصينية والاندوكية (الهندية).
مسار الأحداث والصراع بين «القاعدة» والغرب أعطى النظرية زخما منقطع النظير ودارت نقاشات مطولة، غالبا ما كانت تنتهي إلى أن المجتمعات الإسلامية ممانعة بحضارتها وموروثاتها للديموقراطية، مستشهدين بالثورة الإيرانية التي لم تفض إلى ديموقراطية بمفهومها الغربي رغم سلميتها، واستبعد كثير من الخبراء وبينهم هنتنجتون أن يشهد العالم العربي ثورات شبيهة بتلك الثورات التي حررت دول أوروبا الشرقية قبل وبعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي.
رحل هنتنجتون عام 2008 قبل 3 سنوات من أحداث اجتاحت فجأة العالم العربي فيها الكثير من سمات الحركات التحررية والديموقراطية السلمية التي سبق ان شهدها الغرب بدءا من أحداث 1968 في فرنسا إلى ربيع براغ ثم سقوط الجدار، كما لم يشهد قبل وفاته أحداث النرويج في 22 يوليو 2011 والتي تؤكد أن اليمين المسيحي ليس بأقل تطرفاً من اليمين الإسلامي.
ارجاء كثيرة من العالم العربي المسلم بغالبيته شهدت خروج ملايين الشباب إلى الشوارع بحماس منقطع النظير، بدأ في تونس وامتد الى دول أخرى تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» مستفيدين من ثورة التكنولوجيا القادمة من الغرب والإعلام الجديد الذي قدمته شبكة الإنترنت.
قوبلت الثورات بترحيب غربي وبذلت الدول الغربية وسفاراتها جهودا كبيرة على غرار تلك التي بذلتها في نهاية الثمانينيات في أوروبا الشرقية.
وحاولت مساعدة الثوار في أكثر من حالة كان أوضحها ليبيا على تشكيل سلطة مؤقتة بديلة تتولى المرحلة الانتقالية خلال وبعد سقوط النظام.
بمناسبة ما أطلق عليه «الربيع العربي» نستعيد بالذاكرة بعض الثورات المشابهة في اوروبا والعالم خلال العقود الماضية منها الثورة المخملية في تشيكوسلوڤاكيا والثورة الوردية في جورجيا والبرتقالية في أوكرانيا وثورة التوليب في قيرغيزيا وثورة البلدوزر في صربيا وثورة الغناء في دول البلطيق، إضافة إلى بعض تجارب القرن الماضي في مجال النضال السلمي للحركات التحررية وصولا إلى الثورات العربية.
واقرأ ايضاً:
الحلقة الأولى: ثورة تشيكوسلوفاكيا المخملية غيّرت وجه أوروبا
الحلقة الثانية: بالغناء خاضت دول البلطيق ثورتها وتحررت من الاتحاد السوفييتي
الحلقة الثالثة: «ثورة البلدوزر» أطاحت بميلوسيفيتش أكبر ديكتاتوريي العصر الحديث
الحلقة الرابعة: بالورود وشعار «كفاية» أطاحت الثورة الوردية بنظام شيفرنادزه في جورجيا
الحلقة الخامسة: ثورة أوكرانيا البرتقالية.. أنشودة ديموقراطية عابرة؟
الحلقة السادسة: سقوط جدار برلين.. ثورة الثورات
الحلقة السابعة: «الثورة الصفراء».. «قوة الشعب الأولى» أنهت 20 عاماً من ديكتاتورية ماركوس في الفلبين بشعار «ارحل».. واللون الأصفر