-
مخاوف من وصول المرحلة الانتقالية الحالية إلى ما آلت إليه المرحلة السابقة
-
3 مستجدات وراء استعجال الحل السياسي الآن
-
باريس غير متفائلة من قدرة الأطراف المتصارعة على دحر «داعش» حتى لو طوت خلافاتها
اتفاق الصخيرات، الذي وقع نهاية العام الماضي ويقضي بتشكيل وحدة وطنية ستقود المرحلة الانتقالية، لا يشكل امتحانا للقوى الليبية وحدها.
انه امتحان للإرادة الدولية أولا وأخيرا.
الأمم المتحدة رعت التوقيع بمن حضر، مع علمها سلفا أن قوى وازنة معترضة غابت.
انتظرت القوى الكبرى، الاتحاد الأوروبي خصوصا، أكثر من سنة ونصف السنة.
واستهلكت الأزمة جهود ثلاثة مبعوثين دوليين.
وعاد الموقعون في المدينة المغربية إلى مرحلة انتقالية جديدة من سنتين.
ولا شيء يضمن ألا تتكرر تجربة المرحلة الانتقالية الأولى التي انتهت بتعميق الأزمة ومزيد من التشظي والتفتيت.
أولى بوادر التشظي أن الاتفاق الجديد أعاد خلط الأوراق وسيعيد رسم خريطة مختلفة للقوى المتصارعة أو المتحالفة.
فالمعترضون اعتبروه تقاسما للسلطة بين «الإخوان المسلمين» و«تحالف القوى الوطنية» (الليبرالي).
وأخذوا على المبعوث مارتن كوبلر تهميشه قوى وتيارات وطنية وجهوية وكتلا قبلية كان الحديث عن حضورها وقدرة تأثيرها في المجالين السياسي والميداني، فضلا عن الفصائل المقاتلة على الأرض، وما أكثرها.
والواقع أن الأسباب التي دفعت الأمم المتحدة إلى استعجال التوقيع في الصخيرات باتت معروفة.
أوروبا التي لا تبعد حدودها عن ليبيا أكثر من خمسمائة كيلومتر يقلقها تمدد تنظيم «داعش» وغيره من الحركات المتطرفة.
وهي تراقب بقلق سعي «داعش» إلى توسيع إمارته من سرت الساحلية الى صبراتة وأجدابيا.
لكن تمدد التنظيم وما يماثله من تنظيمات نحو مناطق النفط ومدن أخرى ليس هو لب الأزمة الليبية.
الإرهاب أحد العناصر الضاغطة، ولكن لا يمكن اختصارها بالحرب على الإرهاب فقط.
آليات تنفيذ اتفاق الصخيرات
يدرك المبعوث الدولي كوبلر، وهو ينظر إلى صورة المحتفين بالاتفاق، أن وجوها كثيرة غابت عنه.
وأن الموقعين وما يمثلون من قوى سياسية قد لا يملكون ما يمكنهم من مواجهة عشرات الميليشيات المسلحة المعترضة، فضلا عن غياب قوى سياسية وقبلية واسعة عن الاتفاق.
فالجنوب تقتسمه قبائل وقوى شتى، وكذلك الأمر في الشمال الغربي.
فيما «أنصار الشريعة» و«داعش» يسيطران على مناطق واسعة من الشرق الليبي.
وهذه لا يعنيها ما تم التوصل إليه في الصخيرات.
وهو ما يزيد في غموض آليات التنفيذ ويعقدها، إضاقة إلى أن 75% من عديد الجيش الليبي السابق وضباطه وكوادره يقيمون في الخارج أو في بيوتهم، وكان يجب أن يكونوا جزءا من التسوية من أجل مواجهة الإرهاب وفرض الأمن.
لذلك، يخشى كثيرون أن تؤدي المرحلة الانتقالية الجديدة في ليبيا إلى ما أدت إليه المرحلة السابقة التي لم تعط الوقت الكافي.
كان يجب قبل التوافق على الدستور وعلى استعجال الانتخابات البرلمانية، منح الليبيين متسعا من الوقت لتحقيق مصالحات بين قوى وجهات ومكونات وقبائل عمل النظام الاستبدادي السابق على تعميق الهوة بينها.
وكانت نتيجة هذه العجلة تحول البلاد «جماهيريات» جهوية وعرقية وقبلية متصارعة، ولدت ميليشيات واستدعت أخرى من خارج الحدود، من أجل الاستيلاء على السلطة.
وهو ما أتاح لقوى إقليمية كثيرة التدخل دعما لهذا الطرف أو ذاك، كما حصل ويحصل في سورية.
تسوية الأزمة الليبية باتت مطلبا عاجلا للقوى الإقليمية والدولية المعنية بالحرب على الإرهاب وفق خريطة طريق تعتمد على مسودة الصخيرات مخافة انتقال البلد إلى بؤرة صراع جديدة أسوة بسورية والعراق.
والأرجح أن الحكومة التوافقية، التي ستشكل بناء على قاعدة وحيدة هي «وثيقة الصخيرات»، ستحظى بدعم قوي من الدول الكبرى التي تسعى إلى القضاء على «داعش» في الضفة الجنوبية للمتوسط، لكنها تتهيب من مضاعفات تدخل عسكري مباشر في ليبيا غير مضمون الخواتم.
وتزايدت المخاوف الغربية من التدخل في ليبيا منذ مقتل السفير الأميركي الأسبق كريستوفر ستيفنس في بنغازي في سبتمبر 2012.
ويمكن القول ان جولات الحوار الليبي ـ الليبي، التي استمرت على مدى سنة في غدامس والرباط وجنيف وبرلين والجزائر، هي التي أنضجت الظروف للوصول إلى حل توافقي بين الجسمين الرئيسين: البرلمان المعترف به دوليا (مقره في طبرق) والمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته (طرابلس)، وإن ظل المتشددون في الجانبين يدقون طبول الحرب إلى اليوم.
الحل السياسي
لماذا الحل السياسي الآن؟ 3 عناصر جديدة شكلت المتغيرات التي هيأت المناخ لاجتراح الحل ـ بحسب تقرير اوردته «الحياة»ـ : المتغير الأول هو تفكك الدولة الليبية وضجر الناس من تحكم الميليشيات بالمدن والأحياء، مع نفاد صبرهم من الحوارات البيزنطية بين وفدي «البرلمان» و«المؤتمر»، بينما البلد سائر بخطى حثيثة نحو الصوملة.
أما المتغير الثاني فهو العجز غير المسبوق في الموازنة بسبب تراجع إيرادات النفط (95% من دخل البلد) وانهيار قيمة العملة (الدينار)، ما أدى إلى تأخير صرف رواتب الموظفين، علما أن 80% من الليبيين يعملون لدى الدولة.
وأما المتغير الثالث والأهم، فكان الحرب الدولية الشاملة على «داعش»، خاصة بعد هجمات باريس، وبالأخص بعد محاولات التنظيم التمدد من مدينة سرت، معقله الأساسي في ليبيا، إلى أجدابيا المطلة على الحوض النفطي الرئيس في شرق البلد.
وفي معلومات دوائر غربية أن التنظيم يسعى إلى الاستيلاء على بعض الحقول لتصدير النفط عبر المناطق الساحلية التي يسيطر عليها، بعد تقلص موارده في سورية.
أكثر من ذلك، يتخوف الغربيون من احتمال انتقال قيادات التنظيم من «عاصمة الخلافة» في الرقة إلى سرت في حال تضييق الخناق عليها، وهو احتمال غير مؤكد.
فقد شكلت سيطرة «داعش» على مدينة سرت (مسقط رأس معمر القذافي) بعد تحالفه مع بقايا النظام السابق ومنشقين عن تنظيم «أنصار الشريعة» الموالي لـ «القاعدة»، نقلة نوعية في المسار الليبي بعد انتفاضة 17 فبراير 2011.
ويبلغ عدد عناصر التنظيم في ليبيا ما بين 4 و5 آلاف عنصر مسلح نصفهم في سرت.
وتتكون غالبية العناصر الداعشية من تونسيين وسودانيين ويمنيين، علم أن قيادة التنظيم باتت تحض المنتسبين الجدد على التوجه إلى ليبيا بدل سورية منذ انطلاق الضربات الجوية الروسية.
وهذا ما يثير مخاوف واسعة لدى الغربيين ما حملهم على وضع خطط لضرب معاقل التنظيم في سرت.
غير أنهم يدركون أنه من دون قوة ليبية على الأرض لا يمكن كسب المعركة ضده.
سيناريو سورية والعراق
«داعش» يكرر في ليبيا تجربته في سورية والعراق، من خلال السيطرة على قاعدة انطلاق ثم مناطق مفصلية تسهل تدفق البشر والسلاح، وأيضا مناطق غنية توفر له موردا دائما للتمويل.
والسيطرة على مدينة أجدابيا لو حدثت ستكون نقطة تحول في وجود داعش في شمال أفريقيا، إذ ان المدينة تضم حقولا للنفط، من شأنها توفير موارد مالية كبيرة للتنظيم المتطرف، فضلا عن إمكان تهريب النفط عبر الساحل الليبي بطرق غير مشروعة، لقربه من أجدابيا، ما سيخلق قاعدة محورية لداعش في شمال أفريقيا.
والمعلومات تشير إلى تدفق للمسلحين التابعين لـ «داعش» على ليبيا من الجنوب وأن أعدادا متزايدة من اليمن ومن نيجيريا تنضم إلى التنظيم هناك.
سرت باتت موقعا لجذب المقاتلين بدل سورية، في ظل الضربات الجوية المكثفة على التنظيم في معقله في سورية والعراق، حتى أن معلومات تشير إلى سفر مقاتلين من سورية والعراق إلى ليبيا لتحويلها قاعدة جديدة للتنظيم المتشدد، وحسم المعركة هناك.
وقبل أسابيع رأى رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس أن ليبيا ستكون بلا أدنى شك الملف الذي تتعين معالجته في الأشهر القادمة.
وسبب القلق الفرنسي، حسب مصادر ديبلوماسية، لا يتناول فقط الخوف على التراب الوطني الفرنسي بل أيضا على استقرار بلدان المغرب العربي وعلى رأسها تونس وعلى أمن بلدان الساحل.
ومنذ ما قبل عمليات باريس، عمدت فرنسا الى تأهيل قاعدة عسكرية على الحدود الشمالية للنيجر، قريبا من الحدود الليبية ليكون لها عين تراقب ما يحصل من عمليات تهريب سلاح ومخدرات وتنقل متشددين في المثلث الليبي ـ المالي ـ النيجيري مع امتداداته باتجاه الحدود الجزائرية.
وينتاب باريس القلق من تسرب «داعش» باتجاه الجنوب وإقامة التواصل مع بوكو حرام الناشطة خصوصا في نيجيريا.
ويستشف من كلام فالس أن باريس ليست كثيرة التفاؤل بقدرة الأطراف الليبية في حال توصلت الى طي خلافاتها السياسية ووضعت حدا للانقسام الحاصل في البلاد منذ انهيار نظام العقيد القذافي، على التغلب على «داعش» ودحر الإرهاب وإعادة السيطرة على الحدود.
التحديات
في ضوء كل ما تقدم، فإن التحديات الموجودة أمام حكومة ليبيا الجديدة، حكومة الوحدة الوطنية، هي:
1 ـ بناء جيش وطني، بمساعدة الدول العربية والغربية، لإخضاع الميليشيات تدريجا لسلطة الدولة ومصادرة الأسلحة المنتشرة في كل المناطق.
2 ـ الحصول على دعم مزدوج جغرافي وسياسي، أي من المناطق الثلاث: الغرب (طرابلس) وبرقة (بنغازي) وفزان (سبها)، وكذلك من غالبية أعضاء البرلمان (المؤيد لعملية «الكرامة») والمؤتمر (المساند لجماعة «فجر ليبيا»).
غير أن هذا التأييد ليس مضمونا، خصوصا أن مصير الجنرال خليفة حفتر لم يبت في جولات الحوار.
3 ـ تراجع منتوج البلد من النفط من 1.6 مليون برميل في اليوم قبل الثورة إلى 350 ألف برميل حاليا، كما خسرت ليبيا ثلث عائداتها في عام (2013 ـ 2014).
ويرجح الخبراء أن يرتفع العجز في موازنة الدولة خلال العام المقبل إلى 20 مليار دينار (15.3 مليار دولار) وان يصل عجز ميزان المدفوعات نحو 25 مليار دولار، وسيؤدي هذا العجز إلى موجة تضخمية لأسعار السلع والخدمات وتدهور في مستوى معيشة المواطنين.
كما أن تسديد العجز سيرهق في المستقبل كاهل مصرف ليبيا المركزي ويضعضع احتياطه من النقد الأجنبي.
الأخطر من ذلك أن الحوض النفطي في شرق ليبيا مازال في قبضة قائد حراس الحقول النفطية ابراهيم الجضران، وهو لا يعترف بسلطة البرلمان ولا بسلطة المؤتمر الوطني العام.
وفي ظل هبوط أسعار النفط باتت حكومتا طرابلس وطبرق تعانيان من اختناق شديد.
فهل سيترك أمراء الميليشيات قطار الحل ينطلق، وهو الذي يمهد لتقويض نفوذهم ومصالحهم، أم يفجرون الأوضاع عسكريا مثلما فعلوا في المرات السابقة؟ الأرجح أن البوارج والفرقاطات المنتشرة في المياه الدولية قبالة سواحل ليبيا ستتدخل هذه المرة.