مما لا شك فيه أن زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب «الثلاثية الأبعاد» (سعودية وخليجية وعربية إسلامية) هي زيارة استثنائية وغير مسبوقة «شكلا ومضمونا»، توقيتا ونتائج، بعد أشهر معدودة على وصوله الى البيت الأبيض، يشق ترامب طريقه الى «الشرق الأوسط الجديد» ويعبر من بوابة السعودية لتكون أول دولة يزورها وليس إسرائيل كما درجت العادة الرئاسية الأميركية.
يلقى ترحابا وحفاوة في السعودية لم يحظ بها أي رئيس أميركي من قبل، مع العلم أن ترامب كان قبل انتخابه «فزاعة» للمسلمين والعرب، فغدا الأقرب والأحب، يوقع اتفاقيات وعقودا فاقت الخيال: عقود تسليح وتدريب بمبلغ فاق الـ 100 مليار، وعقود استثمار وتجارة بمبلغ فاق الـ 300 مليار.
يردم الهوة التي أوجدتها سياسات أوباما، ويرسي قواعد تحالف أميركي - إسلامي ضد الإرهاب والتطرف، ويروّج لحلف أشبه بـ «ناتو عربي إسلامي» ويؤسس لحل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مقابل تطبيع عربي مع إسرائيل.
كل ذلك جرى في فترة زمنية قياسية، وكل هذه التحولات جرى تظهيرها في خلال زيارة ترامب الى السعودية التي أهم ما يمكن استخلاصه بشأنها من خلاصات واستنتاجات:
1 - يتمثل واحد من الأهداف الرئيسية لدونالد ترامب منذ توليه الرئاسة في العمل على نحو ممنهج على إبطال سياسات سلفه أوباما. وعليه، ليس من المثير للدهشة أن تحمل زيارة ترامب إلى السعودية، الأولى له لبلد أجنبي، إشارة إلى تدشين نهج جديد يختلف عن السياسة الخارجية التي انتهجها باراك أوباما في الشرق الأوسط.
فقد تجاهل أوباما جهود احتواء إيران وفكر في الاتفاق النووي ليسمح للغرب بتطبيع علاقاته معها، لأنه كان على قناعة بأن الاعتراف بالنفوذ الإيراني سوف يقنع طهران بالعمل شريكا لعودة الاستقرار للعراق وسورية، وتسبب ذلك مباشرة في تأسيس التحالف الإيراني - الروسي في سورية.
من الواضح أنه من خلال اختياره الرياض والقدس أول محطتين له في رحلته الخارجية الأولى، يحاول ترامب إقصاء نفسه عن سياسة التقارب تجاه إيران التي انتهجها أوباما.
على هذا الصعيد، اعتمدت حسابات الإدارة السابقة على بناء توازن في القوى بين القوى الإقليمية، بهدف تقليص الوجود العسكري الأميركي في المنطقة.
إلا أنه بالنظر إلى الحروب المشتعلة في العراق وسورية واليمن والتوترات المتصاعدة، يتضح أن استراتيجية أوباما فشلت.
ترامب بداخله رغبة قوية للوقوف بصلابة إلى جانب الحلفاء التقليديين لأميركا، وأعرب عن اعتقاده بأن إيران مصدر عدم الاستقرار في المنطقة.
ويرى ترامب، عن حق، أن إيران استغلت الاتفاق النووي الذي أبرمته مع ست قوى كبرى عام 2015، غطاء لتعزيز نفوذها بمختلف أرجاء المنطقة، وخاصة من خلال استخدام عناصر لا تتبع دولا مثل حزب الله في لبنان وسورية، والحوثيين في اليمن وقوات الحشد الشعبي في العراق.
2 - زيارة ترامب بكل ما حفلت به من مشاهد ونتائج هي رد على مرحلة سابقة وتصحيح لصورة أميركا لدى قسم من الرأي العام العربي والإسلامي.
وتشكل القمة الأميركية - السعودية ردا على تحديات خطرة أنهكت المنطقة، كما تشكل ردا على هجمات 11 سبتمبر التي استهدفت تفجير العلاقات الأميركية - السعودية، وتشكل ردا على سياسة تصدير الثورة الإيرانية، خصوصا بعدما أدت الاختراقات الإيرانية إلى إلهاب مشاعر قسم من السُنة.
وتشكل القمة أيضا ردا على مرحلة الانسحاب الأميركي من المنطقة وانحسار الدور العربي فيها.
وإذا كان التنفيذ في المرحلة المقبلة بمستوى القرار المتخذ، فإن ما يحدث في الرياض سيغير فعلا قواعد اللعبة في المنطقة، ويساهم في إعادة تشكيل المشهد الدولي.
3 - ثمة بُعد رمزي في كل ما حدث: إعلان وتكريس الدور القيادي للمملكة السعودية في المنطقة وتتويج السعودية قائدا للعالم العربي والإسلامي.
هذه «القمم» تؤكد عودة المكانة الفريدة للرياض لدى واشنطن باعتبارها شريكا استراتيجيا قويا وذا مصداقية بعدما قامت الإدارة السابقة بزعزعة تلك الشراكة.
فقد أدركت إدارة ترامب أهمية استعادة حرارة العلاقات مع الرياض.
وأدركت أيضا أهمية البوابة السعودية في العبور إلى العالمين العربي والإسلامي، حيث تمتلك السعودية شرعية وقدرة وعلاقات ورصيدا.
عبور هذه البوابة يوفر لأميركا فرصة استعادة الدور القيادي في المنطقة بعد سنوات من التردد والسياسات الانسحابية.
وتنظر الرياض الى يوم الزيارة على أنه تحول جذري في العلاقات السعودية - الأميركية، ورمز لعودة الولايات المتحدة الى المنطقة.
4 - الدور الأساسي الذي لعبه ولي ولي العهد السعودي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في ترتيب هذه الزيارة وصياغة أهدافها واتفاقياتها مع صهر ترامب ومستشاره «جاريد كوشنير» خلال زيارته الى واشنطن، حيث عمل على تسويق مشروع القوة العربية المشتركة، أو ما يعرف بـ «الناتو العربي»، وهذا المشروع تحمس له ترامب انطلاقا من هذه النقاط والعوامل:
- المشروع ينسجم مع مبدأ «أميركا أولا» والتي ترتكز على عدم التورط المباشر في نزاعات العالم.
- تمسك واشنطن بالقيادة العسكرية لهذه القوة من دون التورط العسكري المباشر، وذلك من خلال إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة.
- قوة عسكرية تعمل تحت المظلة الأميركية من دون أن تتحمل واشنطن تبعاتها المالية.
- توسيع دائرة الاستثمار العسكري الأميركي من خلال زيادة مبيعات الأسلحة والذخائر.
- ستعمل هذه القوة على ملء فراغ نتيجة النزاع الدائر في سورية خصوصا، وكان ممكنا لروسيا أن تملأه في ظل إحجام الدول الغربية عن التورط بنحو واسع في حروب المنطقة.
5 - إيران هي الهدف الرئيسي لـ «القمم» الأميركية الثلاث في السعودية.
ترامب شن هجوما عنيفا على إيران، وقال: «إن إيران تمول وتسلح وتدرب الإرهابيين والميليشيات»، لافتا الى أنها «أشعلت النزاعات الطائفية، وهي مسؤولة عن زعزعة الاستقرار في لبنان والعراق واليمن، كما أن التدخلات الإيرانية التي تزعزع الاستقرار واضحة جدا في سورية، فبفضل إيران ارتكب الرئيس السوري بشار الأسد جرائم في حق شعبه، ويجب أن نعمل معا لعزلها ومنعها من تمويل التنظيمات الإرهابية».
وفي «إعلان الرياض» الذي صدر في ختام القمة، أكد قادة الدول رفضهم الكامل لممارسات النظام الإيراني المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، ولاستمرار دعمه للإرهاب والتطرف، مشددين على خطورة برنامج إيران للصواريخ الباليستية، كذلك، دانوا خرق النظام الإيراني المستمر لاتفاقية ڤيينا للعلاقات الديبلوماسية.
خادم الحرمين الشريفين قال في السياق نفسه أيضا: «النظام الإيراني يشكل رأس حربة الإرهاب العالمي منذ ثورة الخميني، وحتى اليوم، وإننا في هذه الدولة منذ 300 عام لم نعرف إرهابا أو تطرفا حتى أطلت ثورة الخميني برأسها عام 1979 ولقد رفضت إيران مبادرات حسن الجوار التي قدمتها دولنا بحسن نية واستبدلت بذلك الأطماع التوسعية والممارسات الإجرامية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ضاربة بالقانون الدولي عرض الحائط ومخالفة مبادئ حسن الجوار والعيش المشترك والاحترام المتبادل.
وقد ظن النظام في إيران أن صمتنا ضعف وحكمتنا تراجع، حتى فاض بنا الكيل من ممارساته العدوانية وتدخلاته كما شاهدنا في اليمن وغيره من دول المنطقة».
وفيما تقول أوساط سعودية إن التحالف مع الولايات المتحدة لا يقتصر على إيران فقط وإنما يشمل كل قضايا وأزمات المنطقة (اليمن وليبيا والعراق وسورية)، بما فيها قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وأن الرياض سعت للحصول على تأكيدات بأن رئاسة ترامب ستواصل نفوذها وضغوطها على إيران لوقف أنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، يقول مسؤول كبير في البيت الأبيض حول سياسات ترامب في مواجهة تدخلات إيران: «الرئيس ترامب يتبنى سياستين: الأولى تتعلق بالصفقة النووية التي أشار مرارا إلى أنه يعتقد أنها صفقة سيئة، لكن إيران ملتزمة بتنفيذ التزاماتها بموجب هذه الصفقة، والجانب الآخر هي استراتيجية لمواجهة إيران فيما يتعلق بتجارب الصواريخ الباليستية وتصرفاتها لزعزعة الاستقرار.
ولهذا فإن جانبا من التطمينات التي قدمها الرئيس ترامب هي إبرام صفقة أسلحة كبيرة تشمل أيضا تقديم التدريب والصيانة.
إنها «قمم» كبح جماح النفوذ الإيراني وإصلاح الخلل في السياسة الأميركية السابقة، وإرساء الاستقرار والأمن في المنطقة، هكذا يختصر السعوديون يومين أميركيين تاريخيين لم يشهدوا لهما مثيلا.