أقدم الرئيس رجب طيب أردوغان، وللمرة الأولى في تاريخ تركيا الحديث، على اقامة قواعد عسكرية تركية خارجية في قطر يرابط فيها قرابة ثلاثة آلاف جندي من القوات البرية والجوية والبحرية، فضلا عن مدربين عسكريين وقوات عمليات خاصة، كما أن هناك قاعدة عسكرية في الصومال، وتحديدا في خليج عدن، بهدف تدريب أكثر من عشرة آلاف جندي، لتصبح بذلك خامس دولة في العالم لها قواعد عسكرية في القارة الافريقية.
كما أن لتركيا قواعد عسكرية في سورية العراق وأذربيجان وألبانيا، ومشاركة عسكرية في قوات حفظ السلام في أفغانستان ولبنان وغيرها من الدول، فضلا عن عشرات آلاف الجنود في جمهورية شمال قبرص، من الواضح أن تركيا المبتعدة عن أميركا المتوترة حتى مع روسيا وأوروبا الى درجة فك ارتباطها بمشروع الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، تركيا هذه ماضية في التوجه الى انتهاج القوة الخشنة في سياستها الخارجية، واستغلال التطورات الجارية في المنطقة بحثا عن الدور والنفوذ، وهو ما سيشكل على الأرجح مسارات السياسة التركية تجاه أزمات المنطقة في سنة ٢٠١٨.
ويمكن القول ان السياسة الخارجية التركية الحالية تقوم على أن أنقرة دولة فاعلة في محيطها الاقليمي والدولي انطلاقا من عوامل اقتصادية وسياسية وأمنية، وأخرى لها علاقة بالموقع الجيوسياسي الحيوي، فضلا عن علاقاتها التاريخية بالجوار الجغرافي، ومع أن نظرية «صفر المشاكل» فشلت في تحقيق هدفها الأساسي «صفر المشكلات مع الجوار»، الا أن جملة الأفكار التي طرحت في هذه النظرية ظلت تشكل محددات للسياسة الخارجية التركية في النظر الى القضايا الجارية في المنطقة وكيفية التعاطي معها، وكل ما سبق شكل انعطافة في انتقال تركيا الى ممارسة القوة الخشنة، انطلاقا من قناعة تقول ان المشاركة في العمليات الجارية في المناطق المتوترة، وممارسة الدور والنفوذ لرسم الخرائط والمصائر، أفضل من الوقوف في مقاعد المتفرجين كما حصل لتركيا خلال الغزو.
الأميركي للعراق عام ٢٠٠٣ التحول التركي نحو القوة الخشنة تقف وراءه عدة عوامل أهمها أن التطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم العربي في الأعوام الأخيرة، بدءا مما جرى في ليبيا مرورا باليمن وسورية وصولا الى الأزمة الخليجية، كل ذلك دفع أنقرة الى بلورة رؤية تقوم على أن أزمات المنطقة مترابطة ومخططة تخضع لحسابات المصالح والدور والنفوذ.
كما أن تركيا ترى أن الصراعات التي تشهدها سورية والعراق مخططة من الخارج، وأن هدفها اقامة دولة كردية، أي إنها تستهدف تركيا في الأساس، وعليه كثيرا ما تبني تحالفاتها وسياساتها على هذا الأساس، وتريد تركيا من انتقالها الى القوة الخشنة تحقيق هدفين أساسيين: الأول: التأكيد على دورها كدولة اقليمية كبرى لا يمكن تجاهل دورها في الأحداث الجارية في المنطقة ومحاولة القوى الدولية الكبرى رسم خريطة جديدة للمنطقة، وهذا ما يفسر حديث أردوغان الدائم عن أن ما يجري في المنطقة حاليا سيحدد ملامح المرحلة المقبلة لقرن من الزمن.
الثاني: استغلال الأزمات الجارية في المنطقة لبلورة دور تركي عبر نسج التحالفات مع القوى الاقليمية والمحلية، وهي في كل ذلك تبحث عن النفوذ والمصالح الاقتصادية انطلاقا من أنها قوة قائدة في الشرق الأوسط ومؤثرة في أحداثها كما يطمح أردوغان، من الواضح أن شهية أردوغان منفتحة على رائحة العظمة والنفوذ الاقليمي والتموضع الدولي، ولكن هذا لا ينفي أهمية ما ينجزه ان كان في تحالفه مع قطر، أو في تفاهماته مع ايران، أو في شراكته مع روسيا، أو في انفتاحه على أفريقيا، أو في اتفاقية «سواكن» مع السودان حيث الخوف من أن يكون هدفها الحقيقي انشاء قاعدة عسكرية تركية على البحر الأحمر.
ويبقى السؤال الأساسي خلال سنة ٢٠١٨ متعلقا بعلاقة الاستراتيجية التركية الجديدة بمنظومة العلاقات التركية التقليدية المرتبطة بالحلف الأطلسي، وكيفية تأثير ذلك على السياسة الخارجية التركية التي تترنح على وقع التجاذب بين موسكو وواشنطن، فضلا عن متغيرات الداخل التركي التي تبقى تشكل الهاجس الأساسي لأردوغان في كل حركة، وخطوة منذ الانقلاب العسكري الفاشل في العام ٢٠١٦.