أكثر ما يميز الرئيس الأميركي دونالد ترامب وإدارته هو «عدم الاستقرار» وحركة الاستقالات والتغييرات والتعيينات التي لم تتوقف. لم يسبق لإدارة أميركية أن شهدت هذا الكم من التغييرات وفي أرفع المناصب، ما ترك أثرا سلبيا على صورة ترامب وشخصيته المزاجية، وأيضا على مصداقية وجدية إدارته على صعيد الملفات والسياسات الخارجية.
وخلال عامين، بدَّل ترامب ثلاثة مستشارين للأمن القومي، ووزيرين للخارجية، ووزيرين للأمن الداخلي، ووزيرين للصحة وثلاثة رؤساء لموظفي البيت الأبيض، وفي آخر أيام العام الماضي استقال وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي كان عُيِّن بسبب خبرته الواسعة في الشرق الأوسط، وكان أقرب في التفكير الى المستشار السابق للأمن القومي هربرت ماكماستر (الذي جاء محله جون بولتون)، ووزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون (الذي حل محله مايك بومبيو). كتب ماتيس في كتاب استقالته ما يفيد بأنه غير موافق على سياسة ترامب التي تضع الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط في حال اضطراب. وعلم لاحقا أن ماتيس كان معارضا لقرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ولقرار نقل السفارة الأميركية الى القدس. وأما السبب المباشر لاستقالته فكان إعلان ترامب عزمه ونيته على سحب القوات الأميركية من سورية ومن أفغانستان، بغض النظر عن تبعات ذلك على المصالح والسياسات الأميركية الخارجية.
قبل أسبوع أعلن جيسون غرينبلات المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط استقالته من منصبه، ورغم إضفاء طابع شخصي على هذه الاستقالة وربطها برغبة غرينبلات بالعودة الى القطاع الخاص، إلا أنه كان من الصعب تصديق هذه الرواية، والتخفيف من شأن ووقع هذه الاستقالة على الخطة الأميركية للسلام في الشرق الأوسط أو ما سمي بـ«صفقة القرن» التي عمل غرينبلات على صياغة بنودها على امتداد عامين وشرع في تسويقها انطلاقا من منتدى البحرين الاقتصادي، قبل أن يكتشف أنها تواجه احتمال الفشل ولا تتمتع بمقومات النجاح، وأن الموقف الفلسطيني الرافض للإغراءات المالية والاقتصادية ومقايضة السلام بالاقتصاد تشكل عقبة أساسية أمام هذه الخطة، فجاءت استقالة غرينبلات قبل أسابيع فقط من الكشف المتوقع عن الجانب السياسي من الصفقة ليطرح تساؤلات كثيرة في شأن توقيت الاستقالة، وما إذا كانت عكست قناعة لدى «مهندس صفقة القرن» بعدم وجود فرص لنجاح هذه الصفقة وبإخفاق ترامب في تحدي القواعد والاتفاقات التي دفعتها الإدارات الأميركية السابقة تجاه قضية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
استقالة غرينبلات عمقت الانطباع بعدم وجود الجدية والمصداقية لدى ترامب في الشرق الأوسط، خصوصا أن الذي تسلم مكانه آفي بيركوفيتش (30 عاما) تنقصه الخبرة والتجربة، ولم يصل الى هذا المركز المتقدم إلا كونه صديق كبير المستشارين في البيت الأبيض جاريد كوشنير (صهر ترامب) الذي اصطحبه معه خلال جولته الأخيرة والواسعة على دول المنطقة.
جاءت الاستقالة أو «الإقالة» المدوية لمستشار الأمن القومي جون بولتون مؤخرا، بطلب من الرئيس ترامب الذي كتب في تغريدة «أبلغت جون بولتون الليلة الماضية أننا لم نعد بحاجة إلى خدماته في البيت الأبيض». وأضاف «أنا لا أتفق مع كثير من اقتراحاته». في إشارة إلى الرجل المعروف بمواقفه الصارمة حيال إيران وروسيا وكوريا الشمالية. وبولتون شخصية مثيرة للجدل ارتبط اسمه باجتياح العراق وغيره من قرارات السياسة الخارجية المتشددة، ويعتبر واحدا من الذين يلعبون دورا في تشدد موقف البيت الأبيض من إيران وفنزويلا وغيرها من مناطق التوتر. ونقل مسؤولون في إدارة ترامب، في تقارير صحافية، مشاعر القلق المسيطرة على ترامب تجاه رؤية وتحركات بولتون في كثير من القضايا، التي انتهت غالبا بتجميد المفاوضات حولها، والتي كان من بينها كذلك المفاوضات التجارية بين واشنطن وبكين.
وتحدث ترامب في مايو الماضي عن عدم موافقته بولتون على مواقفه الصارمة إزاء بعض قضايا الشرق الأوسط، قائلا: «أختلف معه كثيرا، ولاسيما نهجه إزاء الشرق الأوسط والعراق، وهو أيد التدخل في العراق، وأنا أعتقد أن هذا كان خطأ فادحا، وثبت أنني محق، وكنت دائما ضد هذا الأمر»، وأضاف أن مستشاره للأمن القومي يؤدي عملا جيدا جدا، لكنه يتخذ بشكل عام موقفا صارما، وشدد على أن الكلمة الحاسمة في جميع القضايا تعود له وحده.
كانت مفاوضات السلام في أفغانستان على رأس هذه القضايا الخلافية بين الرجلين، بعدما قرر ترامب إزاحة بولتون من هذا الملف، وتسلمه هو بنفسه، فضلا عن استبعاده مؤخرا من الاجتماعات المتعلقة بالحرب في أفغانستان، والتي تدخل ضمن أولويات مهام بولتون، كما ذكر تقرير منشور عن شبكة الإذاعة الوطنية العامة الأميركية.
تحدثت صحيفة «نيويورك تايمز» عن الانقسام الذي أحدثته المفاوضات مع «طالبان» داخل إدارة ترامب. وأوضحت أن الاجتماع الشهير الذي عقده الرئيس الاميركي مع كبار مستشاريه منتصف الشهر الماضي بشأن أفغانستان فاقم صراعا قاسيا داخل فريق السياسة الخارجية على مدى أشهر عدة، ظهر في تأليب وزير الخارجية مايك بومبيو الرأي ضد مستشار الأمن القومي جون بولتون، ضمن معركة على رغبة رئيس بالمفاوضات الصعبة، ووعد في الوقت ذاته بإنهاء حروب أميركا التي لا تنتهي.
ونقلت الصحيفة أنه في الوقت الذي كانوا يناقشون بنود الاتفاق، أكد بومبيو والمفاوض زلماي خليل زاد أنه سيكون بإمكان ترامب البدء بسحب القوات الأميركية، مع ضمان الحصول على التزام من طالبان بعدم إيواء الإرهابيين. أما بولتون فقد رأى أنه يمكن لترامب أن يفي بتعهده الذي أطلقه في حملته، أي خفض عدد القوات، من دون أن ينام مع القتلة الذين أسالوا الدماء الأميركية، رافضا أي صفقة أو اتفاق مع «طالبان». وأضافت الصحيفة أن الأمر انتهى بدلا من ذلك بأيام غير عادية من المشاحنات الديبلوماسية، التي أدت إلى إيقاف المحادثات، عبر عاصفة من التغريدات على موقع تويتر.