يرزح الوضع اللبناني تحت وطأة صدمات متتالية منذ مطلع العام على وقع الثورات والتحولات العربية التي تطرق بابه من الجهة السورية، حتى بات التساؤل عن قدرة لبنان على تحمل وتصريف هذه الصدمات الأزمات، وعلى الحؤول دون تحولها الى مواد مفجرة ومشتعلة، تساؤلا مشروعا ومبررا، فمن «سقوط حكومة الحريري» الى «تشكيل حكومة ميقاتي» الى «صدور القرار الاتهامي» مسافة سياسية مليئة بالتوتر وتنبئ بقدوم مرحلة صعبة ودقيقة ومعقدة، أقصى الطموح فيها هو الخروج بأقل الاهتزازات الأمنية وأقل الخسائر الاقتصادية والحؤول دون تسرب الأزمة الجديدة الى الشارع، وأما الاستقرار السياسي فتمت الاطاحة به ولم يعد قائما والمواجهة السياسية تسير وفق وتيرة تصاعدية وسريعة وستأخذ أشكالها الواضحة في جلسات الثقة ومناقشة بيان الحكومة، التي ستحدد «سقف المواجهة» وسيتبين انه سقف عال وان الجميع تسلقوا شجرة عالية سيكون النزول عنها مكلفا وخطرا ويرتب أثمانا وتنازلات. القرار الاتهامي يساهم في زيادة حدة الصراع السياسي في لبنان ومده بمواد وعوامل جديدة، وفي رفع منسوب التوترات النفسية والطائفية والسياسية وفي نقل الوضع اللبناني مجددا الى «غرفة العناية المركزة» لأنه بات وضعا مكشوفا من الناحيتين السياسية والأمنية في ظل عدم توافر ضوابط وآليات تبقي الصراع في اطاره السياسي وتمنع تحول القرار الاتهامي الى «كرة ثلج ملتهبة» تذيب ما تبقى من حرارة تواصل وقدرة ضبط.
رغم ان القرار الاتهامي لم يحمل مفاجأة كبيرة وانما ظل ضمن التسريبات والتوقعات التي راجت على نطاق واسع على امتداد الأشهر الماضية، الا ان صدوره يحمل أهمية في مغزاه ومفاعيله، ويحمل «واقعا جديدا». انه نقطة تحول في مسيرة المحكمة الدولية التي تنتقل من مرحلة الاتهام الى مرحلة المحاكمة حتى لو كانت غيابية. انه نقطة تحول في المنطقة العربية التي تشهد لأول مرة سابقة تطبيق «مبدأ عدم الافلات من العقاب على جرائم اغتيالات سياسية». وانه نقطة تحول جديدة في الوضع اللبناني الذي مازال منذ العام 2005 خاضعا لتأثيرات وتداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري ولم يخرج منها بعد، هذا «الاغتيال الزلزال» مازالت ارتداداته وفصوله مستمرة.
بعد صدور القرار اتجهت الأنظار الى ثلاث جهات لبنانية معنية به مباشرة:
٭ سعد رفيق الحريري بصفته الشخصية كـ «ولي الدم» وصفته السياسية كزعيم للطائفة السنية، لم يتأخر الحريري في مخاطبة اللبنانيين وإصدار موقفه المعد سلفا، ومن الطبيعي ان يتميز بشحنة عاطفية من المشاعر والانفعالات في هذه اللحظة «التاريخية المؤثرة»، ومن دون إغفال حكومة ميقاتي ودعوتها الى تنفيذ التزامات لبنان تجاه المحكمة ومن اعتبارات سياسية ووطنية وقانونية وأخلاقية.
من الواضح ان الحريري (وحلفاءه في 14 آذار) يحرص على عدم الانزلاق الى لعبة الشارع ويحصر التعاطي مع القرار الاتهامي في اطار سياسي يصب في المواجهة السياسية المفتوحة مع حكومة ميقاتي وفي هدف المرحلة المحدد بإسقاط الحكومة في أسرع وقت ممكن تحت وطأة القرار الاتهامي، وعلى طريقة إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي في العام 2005 تحت وطأة الاغتيال المدوي، في ظل ظروف تعتبر اليوم مشابهة لظروف عام 2004/2005.
٭ حزب الله الذي يواجه اتهاما سياسيا موازيا للاتهام القضائي الموجه الى أشخاص كانوا في صفوفه أو لهم صلة به بشكل أو بآخر، حزب الله لا يواجه مشكلة تحديد موقفه من القرار الظني، فقد سبق له ان حدد موقفه وخاض معركة وقائية واستباقية ضد القرار الذي لا يعنيه والصادر عن محكمة مسيسة أميركيا وإسرائيليا ويصب في مشروع ضرب المقاومة وتدمير صورتها. ولكن حزب الله لا يستطيع ان يتجاهل واقع ان هناك معطيات جديدة أبرزها ما يتصل بتداعيات القرار على مستويات مختلفة لابد من مواجهتها واحتوائها، وما يتصل بدوره المركزي في الحكومة الجديدة، حيث ان الحكومة باتت تتقدم على المحكمة عنده وسيتفادى خسارة انجاز سياسي حققه بسبب قرار قضائي يمسه، مع ما يعنيه ذلك من إدخال تعديلات على موقفه الذي كان أيام حكومة الحريري.
٭ الرئيس نجيب ميقاتي بصفته الرسمية رئيسا للحكومة التي ستتابع مسار المحكمة الدولية ومسيرة التعاون مع المحكمة الدولية وبصفته السياسية كقيادي سني يواجه ضغوط الفريق الذي يمثله في الحكم.
في الواقع، الرئيس ميقاتي في وضع لا يحسد عليه وواقع بين فكي كماشة «الحكومة والطائفة» وبين سندان حزب الله الذي تجاوز المحكمة وأصبحت وراءه ومطرقة الحريري الذي يعتبر المحكمة خطا أحمر سنيا مثلما المقاومة خط أحمر شيعيا، ولن يفرط بورقة المحكمة والقرار الاتهامي وسيلعبها حتى النهاية. لقد أثبت ميقاتي حتى الآن قدرة فائقة في التعاطي وادارة الأمور والأزمات واجتاز قطوع التشكيل والبيان الوزاري، وسيجتاز عتبة الثقة النيابية ولكنه سيواجه اختبار المحكمة الدولية وكيف سيترجم موقفه عمليا على أرض الواقع.