زيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي الى الأراضي المقدسة في إسرائيل خلفت وراءها عاصفة لم تهدأ بعد وشكلت عاملا إضافيا، جانبيا ومفاجئا، في رفع منسوب التوتر اللبناني الذي عاود الظهور بعد سقوط الاستحقاق الرئاسي في الفراغ.
البطريرك الراعي ومنذ «عودته الصامتة» الى لبنان لا يرد ولا يدخل في سجالات، وربما يكتفي بما يصدر عن اجتماع مجلس المطارنة اليوم.
لكن حلقة المتضامنين مع الراعي تتوسع بعدما أطلق النائب وليد جنبلاط إشارة تضامن مرفقة بانتقاد التطاول على الراعي وأيضا انتقاد الموقف المسيحي العام الذي ترك البطريرك وحيدا، موقف خرقه الرئيس ميشال سليمان في زيارة الى بكركي والدكتور سمير جعجع في اتصال مع الراعي منددا بـ «الحملات الوقحة»، في حين اتصف موقف التيار الوطني الحر بـ «الغموض والإحراج»، ومثله موقف تيار المستقبل.
بينما لوحظ «صمت مطبق» من جانب الرئيس نبيه بري الذي لم يأت على ذكر الزيارة لا سلبا ولا إيجابا وربما لأنه كان في إجازة خاصة في إيطاليا.
بات من الواضح أن زيارة الراعي قوبلت برد فعل سلبي من جانب حزب الله الذي لم يستطع أن يكتم استياءه الشديد، والذي عاد الى خطاب سياسي مع بكركي كان يتبعه أيام البطريرك صفير وأسقطه بعد اعتلاء الراعي سدة البطريركية وفتح صفحة جديدة معه.
ويتوقع المراقبون أن تشكل زيارة الراعي نقطة تحول في علاقته مع حزب الله.
ويتوقع محللون سياسيون قريبون من حزب الله ومطلعون على أجوائه أن العلاقة بين الحزب والراعي «لن تعود إلى ما كانت عليه قبل مواقفه الأخيرة، وسيشوبها نوع من الجفاف وتخضع لإعادة تقييم من الحزب، وإن كان لا قطيعة نهائية في لبنان، ولكنه لن يصدر أي بيان رسمي مراعاة منه للحساسيات الطائفية واحتراما لمقام رئاسة طائفة وليس من مصلحة الحزب أو طبيعته الدخول بسجالات مماثلة».
ويشدد هؤلاء على أن «مواقف الراعي في فلسطين لم تأت مناسبة في الزمان ولا المكان ولا المضمون بالنسبة لحزب الله، الذي رأى في الزيارة نوعا من التطبيع، إذ إنه وبوقت كان الحزب يحتفل بإنجاز التحرير في لبنان، كان البطريرك مجتمعا بعملاء (جيش لحد).
وفي المضمون، أعطى الراعي صك براءة لعملاء إسرائيل وهذا أزعج حزب الله الذي يميز بين المقاتلين مع إسرائيل وعائلاتهم، لكن البطريرك اعتبرهم جميعهم ضحايا وحمل الدولة مسؤولية وجودهم، علما أنهم هربوا إلى إسرائيل من تلقاء انفسهم ولم يتعرض أحد لمن بقي في لبنان».
وثمة تشنج في أجواء العلاقة بين بكركي وحزب الله، والحدة في تصريحات بعض نواب حزب الله تقابلها حدة مماثلة من بعض المطارنة. فقد نقل عن المطران ميشال عون قوله: «بالعكس، اذا قاطعوا البطريركية المارونية فهم الخاسرون وليس نحن، لأنهم يحتاجون الى غطائنا. فهم يصعدون الى بكركي ويطلبون دعمنا وتغطيتنا بينما نحن لا نحتاج غطاءهم لأننا لا نملك سلاحا نريد تغطيته أو لدينا مصالح خاصة، وكل ما نتمناه أن يبقى الحوار مفتوحا بين جميع اللبنانيين»، مضيفا: «إذا ظن حزب الله أنه بتهجمه على الراعي يمارس ضغطا عليه، فهو مخطئ، لأن المسيحيين معه ومجلس المطارنة الموارنة والاكليروس وافق بالإجماع على الزيارة، وعلى حزب الله التفكير بعقلانية وإعادة حساباته بعد التهجم علينا».
وإسرائيل التي زارها الراعي غير راضية أيضا عن أجواء زيارته ومضمونها. وفي تقرير لها تقول مراسلة «الحياة» آمال شحاده: «الصمت الإسرائيلي على زيارة البطريرك لم يكن مجرد صدفة. فإسرائيل تقف متفرجة، لأن هناك من وضعها ـ أي وضع إسرائيل ـ في مركز الحدث. الراعي يأتي ليلتقي رعيته ويشارك في استقبال البابا فرنسيس في الأراضي المقدسة، ويقيم تظاهرة تحد لسياسة التشريد الإسرائيلية، وفي لبنان يتهمه البعض بالتطبيع مع إسرائيل. لماذا لا تستفيد من مهاجمة الراعي؟ الزيارة، وكما رأتها غالبية فلسطينيي 48، كانت بمثابة تظاهرة تضامن مع كل من يعاني الظلم. وكانت صرخة أخرى ضد سياسة التهويد. والأمر لا يقتصر على زيارة الراعي لكفربرعم. فقد تحولت الزيارة بمختلف محطاتها الى مجموعة تظاهرات ضخمة بقيادة الكنيسة ومشاركة القوى الوطنية من كل الطوائف والشرائح لدى فلسطينيي 48، ضد السياسة الإسرائيلية. حتى دعوته الى المصالحة مع اللبنانيين الهاربين الى إسرائيل وإعادتهم الى لبنان، لم ترض إسرائيل، التي أذلتهم عند وصولهم عام ألفين وقسمتهم الى مستويات عدة، وهؤلاء ليسوا جميعا ممن خدموا في جيش لحد المتواطئ مع اسرائيل. وإن كان منهم من تواطأ مع إسرائيل، فإن زوجاتهم لسن مذنبات وأطفالهم ليسوا مذنبين.
فلماذا يجب أن يكبر هؤلاء الأطفال في ظل عملية تهويد لهم».
مجموعة من مؤيدي المخطط الإسرائيلي لتجنيد الشبان المسيحيين في جيش الاحتلال الإسرائيلي، حاولت التقاء البطريرك فرفض. وحرص قادة العمل الوطني لفلسطينيي 48 على إبعادهم من طريقه. وهذا أيضا لم يرق لإسرائيل كما لم يرق لها الموقف الذي كرره الراعي في أكثر من مكان تواجد فيه بدعوته الشباب الى عدم الهجرة والتشبث بالأرض. فهي دعوة تأتي من شخصية مثله، في ظل السياسة الإسرائيلية الهادفة الى تهجير الشباب الفلسطيني. وفي هذا الجانب كانت أقوى رسائله قبل أن يغادر المنطقة فقال: «أرضنا هي هويتنا ورسالتنا وتاريخنا. ويجب أن نتمسك بها. الصعوبات طارئة اليوم لكنها تمر. يجب علينا عدم ترك أرضنا لأننا على هذه الأرض كتبنا تاريخنا».