الانكفاء الأميركي عن ساحة الشرق الأوسط بات واقعا ملموسا، من دون أن يعني ذلك أن أميركا تدير ظهرها وفي صدد تنفيذ انسحاب تام، ما يتفق عليه خبراء ومحللون في بيروت أن الانسحاب الأميركي من أزمات المنطقة لا يعود فقط إلى رغبة إدارة باراك أوباما في ترميم الساحة الداخلية من جهة، ورعاية المصالح الاستراتيجية الأكثر إلحاحا في جنوب شرقي آسيا فحسب، هناك ظروف ومعطيات تلقي جانبا من المسؤولية على عاتق أهل المنطقة الذين ساهموا في تسهيل هذا الانسحاب: الرئيس الأميركي عبر باكرا، في ولايته الأولى، عن عجزه عن تحريك عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو اليوم يعاود التجربة ملقيا المهمة على عاتق وزير خارجيته جون كيري، ولا يلوح في أفق المحاولة الجديدة ما يشي بالنتائج المتوخاة.
والحديث يطول عن خيبة الولايات المتحدة من «الربيع العربي»، فاجأتها الرياح التي هبت سريعا على عدد من الدول العربية، وحاولت في البدايات أن تنخرط عن بعد، دعمت الرغبة في التغيير، وسعت إلى إعادة النظر في شبكة علاقاتها ومصالحها، أغراها لوقت بناء «مشروع سني إخواني» يساعدها في مواجهة «الهلال الشيعي»، لكنها سرعان ما اكتشفت عبث الرهان على الإسلاميين وعلى قوى التغيير الأخرى، لم يستطع الحراك ملء الفراغ الذي خلفه سقوط الأنظمة العسكرية السابقة، وبدا أن التشظي بين قواها وطوائفها وإتنياتها وجهوياتها وقبائلها يستحيل أن يستقر على مشروع حكم يمكن التعامل معه.
هذه هي اللوحة التي تشاهدها إدارة الرئيس أوباما عندما تنظر إلى خريطة الشرق الأوسط، وهي لوحة لا تغري بانخراطها سعيا إلى بناء استراتيجية جديدة في منطقة متحركة لا ثبات فيها ولا رؤية إقليمية جامعة، ولا مشروع عربيا يمكن التعامل معه أو البناء عليه، وخطوط التماس انتقلت إلى أقاليم أخرى، ظل الشرق الأوسط في سلم الاهتمام الأميركي، أقله في موضوع أمن إسرائيل وأمن النفط، لكنه تأخر عن المحيط الهادي والهندي، وحتى عن القارة السمراء حيث التنافس بين الكبار على أشده.
وفق قراءة الخبراء والمحللين في بيروت، فإن روسيا ستغتنم فرصة ضعف الإدارة الأميركية الحالية وتراجع الدول الأميركي في الشرق الأوسط لملء الفراغ الحاصل وزيادة نفوذها في هذه المنطقة بما فيها مصر ودول الخليج التي تمثل كتلة من النفوذ المالي والاقتصادي والتجاري على مستوى العالم، وممرا لأكثر من 50% من إمدادات البترول، ومن المعروف أن الدور الواضح لروسيا في الفترة الأخيرة ينصب على الأزمة السورية، بعدما ظهر في قضايا أخرى، مثل أمن الخليج والعراق، وبالتالي أصبح الروس الآن يبحثون عن مكان نفوذ وفقا للاستراتيجية الخاصة بهم، واليوم يريدون أن يطرحوا أنفسهم برؤى وتصورات جديدة، لكن تحليل مضمون الطرح الروسي يشير إلى أنهم لم يقدموا إلى حين تتضح الأحداث ،راقب وانتظر مبادرة، وإنما يتبنون سياسة رد الفعل ويرفعون شعارا ديبلوماسيا شهيرا اسمه سواء في الأزمة السورية أو أمن الخليج أو في حروب الشرق الأوسط الرئيسية أو في التحولات التي شهدتها البلاد العربية، ومن الممكن أن يتم توظيف الجانب الروسي، واستثمار الدور الروسي في المنطقة، لإحداث توازن في السياسة الخارجية الأميركية، تجاه المنطقة، إلى حد ما، أي ليس إلى الحد الذي قد يتصوره البعض.
وحتى الآن لم تطرح روسيا نفسها كبديل للسياسة الأميركية، ولم تواجه الولايات المتحدة في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة، الروس ينتظرون الموقف الأميركي بالأساس ليبنوا عليه تقديرهم، لأن عودة الروس إلى منطقة الشرق الأوسط تتعلق بالقدرات والإمكانيات الخاصة بذلك، ورغم وجود إمكانيات للعودة، فإنه توجد ظروف تعوق ذلك، من بينها أن عودة الروس للمنطقة يمكن أن تواجه بإشكاليات وتعقيدات حقيقية داخل روسيا نفسها، مثل المؤسسة العسكرية وبعض الأحزاب المعارضة وغيرها، تتحفظ حتى الآن على عودة الجانب الروسي لممارسة ديبلوماسية وسياسية على المستوى الدولي.
تطمح موسكو الى إحياء الدور الروسي العالمي ومصالحه القومية ومكانته الدولية، وهذا ما جعل بوتين يتشدد في رفض التفرد الأميركي ويضع الشرق الأوسط في مقدمة اهتماماته، ولكن الدور المفضل الذي تحب أن تلعبه روسيا في الشرق الأوسط هو دور الوسيط الذي يستطيع، بعكس الحكومات الغربية، أن يتصل بجميع الأطراف مثل إيران وحزب الله وحماس، ويجد الروس دور الوساطة مغريا، فهو يتيح لروسيا أن تضطلع بدور عالمي مؤثر من دون أن تبذل مجهودا في إيجاد أي حلول، خاصة أثناء المفاوضات، ثم إن دور الوساطة يمكن روسيا من اتخاذ موقع جيد للتلاعب بالتوترات بين الأطراف المختلفة لصالح موسكو.