أرخى القرار الروسي بالانسحاب «الجزئي» من سورية بظلاله على مجمل الوضع في سورية والمنطقة والعالم، محدثا حالة من الإرباك ومخلفا وراءه تساؤلات كثيرة حول الأسباب التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى اتخاذ هذا القرار، والأهداف التي يسعى الى تحقيقها، والنتائج التي ستترتب على هذا القرار المفاجئ، منذ أن أعلن هذا القرار، دارت تساؤلات وتحليلات كثيرة على مغزاه وتوقيته وتداعياته على المفاوضات وعلى الأرض، وأعطيت إجابات وتفسيرات كثيرة.
إن الإضاءة على ردود الفعل والقراءات السياسية للمحللين والخبراء والمسؤولين في المنطقة والعالم تساعد في فهم أكثر لخلفيات القرار الروسي وأبعاده وأهدافه ونتائجه:
1- القراءة الروسية توزعت بين النقاط التالية:
٭ موسكو كانت حددت فترة 6 أشهر لحملتها العسكرية اعتبرتها كافية للقضاء على قوات المعارضة المعتدلة وإملاء شروط التسوية.
ولكنها أدركت أن أهداف التدخل التي لم تتحقق في الأشهر الستة الأولى، من المستبعد أن تتحقق في الأشهر الستة المقبلة، وأن الجيش السوري، مع حلفائه، نجح في التقدم في نواح متعددة ولكنه فشل في حلب، وهي التي كان من المفترض أن تكون منعطف النصر الحاسم للنظام.
٭ موسكو حققت أفضل ما يمكن التوصل إليه عسكريا من دون القيام بعملية برية ومن دون تحويل سورية الى «أفغانستان جديدة»، وهدفها الرئيسي منذ البداية لم يكن إنقاذ نظام الأسد بأي ثمن وإنما كان الخروج من العزلة الدولية، وهذا ما حققته ونجحت في الخروج من العزلة الدولية التي فرضت عليها بسبب النزاع في أوكرانيا.
والتدخل الروسي في الأساس حصل بهدف التقارب مع الغرب أولا، وإطلاق محادثات سلام حول سورية ثانيا.
٭ بقدر ما يشكل الانسحاب فرصة لحفظ «ماء الوجه الروسي»، فإنه يزيد في إحراج الأسد الذي يعود الى ما كان عليه قبل التدخل، وربما المناطق التي وسع النظام السيطرة عليها بمساعدة روسيا قد تؤول مجددا الى سيطرة المعارضة. والسؤال المطروح الآن: هل ان خروج القوات الروسية سيكون مقدمة لخروج الرئيس السوري؟!
٭ قرار بوتين إشارة الى دمشق مفادها: لا نية لدينا بأن نقوم نيابة عنكم بكل العمل، ويقصد بذلك خوض روسيا غمار الحرب في سورية حتى تحقيق الأهداف التي أعلن عنها الأسد أخيرا بالمضي في الحرب حتى النهاية. والقرار إشارة ضمنية الى تباينات في الرؤى بين الأسد والكرملين حول سبل حل الأزمة السورية في وقت بدا الأسد وكأنه مصر على الحل العسكري، أو يرتقب على الأقل الالتزام بخطة الحل السياسي كما توافقت عليها المجموعة الدولية لدعم سورية وأقرها مجلس الأمن.
2- القراءة الأميركية أظهرت:
٭ الحذر ازاء قرار باغت الإدارة الأميركية التي تأخذ وقتها في تحديد تأثير هذا القرار على الوضع في سورية وفي تحديد كيفية التعاطي معه.
٭ إيجابية في النظرة الى هذا القرار الذي يساعد في تعزيز مفاوضات جنيف، بعدما كان التدخل العسكري أعاق المفاوضات والحل السياسي. فالقرار يعكس رغبة روسية في عدم البقاء في المستنقع السوري لوقت غير محدود وبالسير في اتجاه تسوية سلام.
٭ تعداد نجاحات بوتين ومكتسباته: نجح بوتين في اختيار التوقيت المناسب لتنظيم خروج آمن بعدما نجح في استعراض قوة بلاده العسكرية، وفي إجبار واشنطن على معاملة موسكو كشريك لها في إرساء الاستقرار في سورية، وفي إظهار موسكو كحليف يمكن التعويل عليه أكثر من واشنطن وإعادتها الى الشرق الأوسط كلاعب مهم وأحد صناع القرار وفرض الاحترام لـ «بوتين» كزعيم عالمي.
ومن الأهداف التي حققها بوتين أيضا: إنهاء العزلة التي حاولت واشنطن فرضها على موسكو إثر الأزمة الأوكرانية مجبرا أميركا، وبحجم أقل أوروبا، على محاورته والتعاون معه. فالهدف الرئيسي من الانخراط العسكري في سورية هو إجبار الغرب على التعامل مع موسكو مجددا. وهذا الأمر حصل وها هم الآن يخرجون من الصراع بأقل الخسائر. إنه تكتيك ذكي.
3- القراءة الأوروبية ركزت على النقاط التالية:
٭ الطبيعة المفاجئة لهذا القرار الذي لم تلحظ أي مؤشرات تدل على حصوله.
٭ توخي الحذر وانتظار مدى الانسحاب الروسي وترجمته ميدانيا وطبيعة القوات المنسحبة والتي ستبقى في سورية والمهمات التي ستقوم بها.
٭ أولى الفرضيات لهذا القرار أن يكون عقابا للرئيس الأسد لأنه لم يتعاون أو لم يستجب تماما لما تريد موسكو أن يقوم به بعدما أخذ يشعر بأنه في وضع قوي بفضل التدخل الروسي الكثيف.
٭ المسألة الثانية التي تؤخذ في الاعتبار التكلفة المادية للتدخل الروسي نتيجة الوضع المتردي للاقتصاد الروسي مع تراجع أسعار النفط والغاز وحال الميزانية العامة. بوتين وجد أن الحرب ستستمر وأن روسيا ستغرق في أوحالها، وهذا ما سعى لتلافيه عبر قرار الانسحاب.
٭ النتائج مرتبطة عضويا بمدى الانسحاب والدور الذي سيعطى للقوات الروسية المتبقية في سورية. ولكن ما هو واضح وثابت أن الانسحاب يشكل ورقة ضغط على النظام الذي سيظهر مدى قدرته على المقاومة والبقاء ورفض الضغوط، كما يحدث الانسحاب انقلابا في المفاوضات ما يفترض أن ينعكس على طريقة تعاطي دمشق مع المرحلة الجديدة وطبيعة أداء وفدها المفاوض في جنيف.
٭ القرار الروسي يخدم المفاوضات لأنه يزيد الضغط على الأسد للتفاوض بجدية حول عملية انتقال سياسي، ولأنه يعطي إشارة الى أن الأطراف المتنازعة تعبت بعد خمس سنوات من الحرب وأقرت بأن أحدا لا يستطيع الفوز في هذا النزاع عسكريا. وبالتالي هناك أمل بالوصول الى حل سياسي.
4- القراءة الإسرائيلية ركزت على النقاط التالية:
٭ قرار الخروج فاجأ إسرائيل خلافا لقرار الدخول قبل أشهر، حيث توافرت حينها إشارات استخباراتية مسبقة. وفي بداية الشهر الحالي كان حلف شمال الأطلسي يتوقع تعميق روسيا لوجودها في سورية.
٭ التوقيت له مغزى وليس مصادفة. انتهاء الحملة الروسية يحصل مع بدء المفاوضات، والانسحاب يوجه تحذيرا للقيادة السورية لإظهار مرونة في جنيف.
٭ بوتين تصرف بحكمة وحذر: من جهة يعلن أنه لا يريد التورط في الوحل السوري وتكرار أخطاء الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. ومن جهة ثانية يضع روسيا في موقع الدولة العظمى وفي مرتبة موازية لأميركا التي تفقد مكانتها في المنطقة وبين أصدقائها، فيما تنجح روسيا في دفع الوضع السوري نحو المفاوضات والحل.
٭ القرار الروسي يخدم أغراض كل من إيران وإسرائيل المتناقضة: إسرائيل تستعيد حرية العمل في الأجواء السورية. وإيران تعود للعب دور الركيزة الأساسية للنظام.
٭ قرار الانسحاب الروسي يرسم الخريطة المستقبلية لسورية. القرار يتضمن إقرارا بأنه ليس في وسع روسيا أن تحقق أكثر مما حققته بحملتها الجوية من دون الاستناد الى قوات برية روسية وهذا ما لا ترغب به. وبوتين استخلص أن نفوذ روسيا مضمون في سورية وأن الوقت حان لتنفيذ خطته لتقسيم سورية ضمن نظام فدرالي. بوتين مدرك أن سورية لن تعود دولة مركزية مستقلة بحدودها القديمة، ولذلك قام بخطوة يمكن أن تحول سورية الى دولة فيدرالية.
5- قراءة النظام السوري عكست التوجهات والمناخات التالية:
٭ شعور بالصدمة وحال الإرباك. تلك كانت صورة الوهلة الأولى.
٭ توضيحات وتفسيرات لامتصاص أجواء الصدمة ركزت على أن القرار الروسي منسق مع دمشق ويصب في إقناع المعارضة وداعميها بقبول حل سياسي يتفق مع مفهوم الدولة السورية.
٭ إبراز وتسليط الضوء على التأكيدات الروسية بأن سحب القوات الأساسية لا يستهدف ممارسة الضغط على الأسد، وأن قسما من العسكريين الروس سيبقون في قاعدتي حميميم وطرطوس، وأن الطيران الروسي سيواصل ضرباته الجوية على أهداف إرهابية.
٭ تفهم خلفيات ودوافع الخطوة الروسية. فالقيادة السورية تدرك أن هذه «القنبلة» السياسية التي فجرها بوتين على خلفية عسكرية، تريد وضع الخصوم أمام خيار محدد: فإما يقبلون بالحل السياسي الذي يعيد ينزع فتيل التدخل الخارجي ويتخلى عن الشرط المسبق لرحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، أو يتعطل المسار السياسي ويتحمل الطرف الآخر مسؤولية التعطيل وما بعده.
فهذه القنبلة ستسمح لبوتين بحرية مفاوضات أكبر، وتجبر تركيا على التراجع، وتزيد التأييد الغربي للدور الروسي وتشرك أطرافا معارضة وكردا في مفاوضات جنيف.
وتطور المسار السياسي، سيدفع حتما القيادة الروسية إلى إقناع حليفها السوري بتنازلات ليس على مستوى التخلي عن الرئاسة أو صلاحياتها، وإنما في سياق إشراك المعارضة في الحكومة المقبلة والانتخابات البرلمانية وإطلاق سراح الأسرى وتعزيز المصالحات وغيرها وتعديل طبيعة النظام.
هذا يفترض تنازلات مسبقة من قبل أطراف أخرى في المنطقة.
6- قراءة المعارضة السورية تأرجحت بين:
٭ ارتياح وتفاؤل ازاء الخطوة الروسية التي حالت دون انهيار العملية السياسية التي كانت تواجه خطر الانهيار بعد تصريحات المعلم والجعفري.
والتي وجهت رسالة الى الأسد بالدرجة الأولى بعدما وصلت الأمور الى درجة أن ولكن موقف النظام كاد يطيح بكل الجهود الروسية.
مواقف النظام ليست السبب الوحيد وهناك أسباب أخرى استراتيجية وسياسية. فالروس يراهنون على حل سياسي وهناك حدود لتدخلهم في سورية لاعتبارات اقتصادية وجيوسياسية متعددة.
٭ حذر وترقب ازاء قرار روسي من المبكر تقدير تفاعلاته وتداعياته وحجم تحولاته، بانتظار الوقائع الميدانية لمعرفة ما إذا كان القرار الروسي تكتيكيا أم جديا، وما إذا كان بوتين سيطلب في المقابل من أوباما الضغط على حلفاء المعارضة وقف الدعم لها مع حفاظه (أي بوتين) على القدرة العسكرية لشن غارات والقصف بصواريخ طويلة المدى على مناطق المعارضة.
٭ تخوف موجود في بعض دوائر المعارضة لجهة:
- أن يكون الثمن، بعد قيام بوتين بهذا التنازل التكتيكي، على المعارضة بأن تتنازل أكثر وتقبل بحكومة وحدة وطنية بدل هيئة حكم انتقالية، أو أن تقبل بالفيدرالية وفق التصور الروسي.
- أن يؤدي هذا التطور الى انهيار العملية السياسية برمتها، بما في ذلك وقف إطلاق النار الذي نجح في تخفيف نسبة العنف في البلاد بنسبة 90%.
فلن يكون في مقدور موسكو بعد انسحابها أن تضمن أي شيء يتعلق بالنظام ولن تقبل أميركا منها بعد الآن أي ضمانة، وهذا يعني انهيار مسألة الضمانات التي تقوم عليها العملية السياسية لحل الأزمة، وأن سورية ستكون تحت تهديد انهيار الأوضاع فيها الى أسوأ بكثير مما كانت والى دوامة عنف أكثر تفلتا هذه المرة بعدما ستتخلى روسيا عن حماية الأسد ونظامه وتتركه يواجه وحيدا ظنا منها أنه سيعود إليها مستنجدا وخاضعا.
وفي المقابل ستقتنص الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة هذه الفرصة وستزيد الدعم والتشجيع.