داخل مستوصف في بلدة ريفية بشمال سورية، يعلو بكاء طفلة صغيرة عبثا يحاول والدها أن يثبت رأسها لمنعها من الحركة بينما يحقن ممرض تقرحات تغطي أنفها جراء اصابتها بداء اللشمانيا الذي ينهش أجساد الصغار والكبار.
يتوزع المرضى في مستوصف بلدة الكرامة في الريف الشمالي لمحافظة الرقة بين غرف مظلمة تفوح منها رائحة رطوبة مزعجة. يعلو صراخ أطفال بينما يحاول آخرون الإفلات من ذويهم خوفا من الحقن والدموع تنهمر على وجوههم المكسوة بالتقرحات فيما ينتظرون أن يحين دورهم لتلقي العلاج.
لا تتوقف الطفلة التي لم تبلغ العامين بعد عن البكاء. يضع والدها يده على رأسها أثناء حقنها، ويعدها بشراء كيس من البطاطس المقرمشة لإرضائها فور الانتهاء.
واللشمانيا مرض طفيلي ينتقل عن طريق لدغات حشرة صغيرة صفراء اللون تعرف بذبابة الرمل، تتنقل ليلا من دون أن تصدر صوتا، وقد تلسع الشخص دون أن يشعر بها. ويتم علاجه عبر حقن الحبوب أو التقرحات التي يسببها بشكل دوري لفترة زمنية محددة.
في ردهة المستوصف، تنتظر شذى العمر (15 عاما) مع شقيقتها لتلقي العلاج أيضا. وتقول المراهقة المتشحة بنقاب أسود لا يظهر سوى عينيها لوكالة فرانس برس «أنا مصابة في قدمي بينما يوجد في وجه أختي 11 إصابة (تقرحا) وأخي مصاب في عينه».
وتمد سيدة رجلها على سرير نقال، بينما يقوم الممرض بحقن التقرحات الواحدة تلو الأخرى. ويبدو بعض أطفال وكأنهم معتادون على العلاج، فيتلقون حقنهم بهدوء، ثم يثبتون القطن على وجوههم من دون ابداء أي رد فعل.
وهذا الداء هو من الأمراض المنتشرة سابقا في سورية لاسيما في حلب والشمال، لكن سنوات النزاع الثماني فاقمت الوضع، بحسب منظمة الصحة العالمية. وتضاعفت حالات الإصابة به منذ العام 2010 حتى العام 2018 إلى أكثر من ثمانين ألفا.
وشهدت محافظة الرقة، بحسب المتحدث باسم المنظمة في سورية يحيى بوزو، ارتفاعا في إصابات اللشمانيا في العام 2018 لتصل إلى 6791 حالة، قبل أن تتراجع في العام الحالي مع تسجيل 679 اصابة حتى الآن.
مستنقعات ونفايات
وتشير المنظمة إلى أن أحد أخطر عوامل انتشار اللشمانيا في المحافظة هو المنازل الفقيرة ونظام الصرف الصحي السيئ، بما في ذلك النقص في الإمدادات المناسبة لإخراج الفضلات، فضلا عن انتشار فضلات الحيوانات، وهو ما يشكل بيئة حاضنة للذبابة الناقلة للداء.
ويتكاثر هذا الصنف من الذباب مع ارتفاع درجات الحرارة خلال فصلي الربيع والصيف. ويقول بوزو «إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة الآن، فمن المرجح أن يرتفع عدد الحالات» خلال النصف الثاني من العام الحالي.
وعمدت المنظمة إلى تدريب كوادر طبية في الرقة لمواجهة الارتفاع الحاد في اللشمانيا، وهي تقدم حاليا الدعم لستة مراكز طبية بينها مستوصف الكرامة.
تحضر وضحى الجراد (55 عاما) مسرعة الى المستوصف للاستفسار عن كيفية علاج هذا المرض. وتقول لفرانس برس «زوجي عجوز مصاب بيده، لم نعالجه حتى الآن ودائما ما يحك إصابته حتى يخرج الدم منها».
وتتابع «أحفادي مصابون وزوجة ابني أيضا»، مضيفة «لا نستطيع النوم ليلا من كثرة الذباب».
ويبرر المسؤول الإداري في مركز الكرامة الطبي يونس النعيمي انتشار المرض بـ «المستنقعات والرطوبة وقرب البيوت من الأراضي الزراعية وانتشار النفايات».
ويرجح النعيمي ارتفاع عدد الإصابات نتيجة انعدام الوقاية، مشيرا إلى أن البعض «يأتي فورا بعد اكتشاف الإصابة، إلا أن آخرين لا يهتمون حتى تستعصي الإصابة ويصبح العلاج أصعب ويحتاج وقتا أطول».
ويوضح «العلاج متوافر، لكن الوقاية هي الأهم».
لا أحد يهتم
ويكثر في منطقة الكرامة الريفية انتشار الذباب الذي يحوم فوق النفايات المنتشرة بين منازل متواضعة، لايزال بعضها يشهد على أثار المعارك بين الأكراد وداعش.
وتعاني المنطقة، وفق سكان، من إهمال ونقص كبير في الخدمات بالإضافة إلى عدم إزالة النفايات بشكل مستمر.
خلال انتظاره تلقي ابنته للعلاج من اللشمانيا في المستوصف، يقول حسين حمود (50 عاما) لفرانس برس إن المسؤولين المحليين «رشوا المبيدات مرة واحدة فقط داخل البيوت منذ فترة طويلة، ولم يكرروا الأمر لاحقا».
ويضيف «لا أحد اهتم لأمرنا. لو كان هناك حد أدنى من الاهتمام لما كان حدث ما حدث».
في قرية جديدة البلدية القريبة، يتابع تلامذة الدروس في إحدى القاعات، وبينهم تلميذان على الأقل تظهر على وجهيهما إصابة اللشمانيا.
ولا يقتصر الأمر على الأطفال، فمدرستهم مصابة أيضا وكذلك مدير المدرسة عبد زين المرعي (26 عاما)، الذي يكشف رجليه لتظهر بقع حمراء منتشرة عليهما.
ويقول لفرانس برس «في جسدي 15 لسعة ومازلت أتلقى العلاج»، محصيا إصابة 35 إلى 40 تلميذا في المدرسة.