نطرب لغناء «كوكب الشرق» الراحلة أم كلثوم، رحمها الله، نستمع لغناء «سفيرتنا إلى النجوم» السيدة فيروز، أطال الله في عمرها، ونستمع إلى الأغاني الكثيرة من عمالقة الشدو العربي، سواء من قضوا منهم وأصبحوا في ذمة الله أو من لا يزالون على قيد الحياة أطال الله في أعمارهم. لكن لم يخطر على بالنا أن هذه الأصوات الاستثنائية التي غنت لنا وأطربتنا، قد نشزت في بعض الأماكن أو خرجت عن الإيقاع في أماكن أخرى، إن عبقريتهم أكبر من أن تجعل نشازاتهم العابرة والقليلة يدركها المستمع العادي. إن زملائي المتخصصين في الموسيقى يستطيعون الاستفاضة أكثر مني في هذا الأمر. لكن لا بد من هذه المقدمة لأوضح وجهة نظري في المطب الدرامي الكبير الذي سقط فيه نص مسلسل «درب الزلق» الذي كتبه لتلفزيون الكويت الفنان الراحل عبدالأمير التركي، رحمه الله، في العام 1977.
تتعرض شخصية حسين بن عاقول، التي جسدها المغفور له بإذن الله عبدالحسين عبدالرضا باقتدار وابداع لا يستطيع تحقيقهما أحد غيره، لصدمة نفسية عنيفة عندما يعود من البصرة ويسمع صوت صقل الدفوف والغناء منطلقا من بيته، فيعتقد أن شقيقه سعد قد تزوج ابنة جيرانهم صالحة في غيابه، فيدخل إلى البيت مبتهجا ومهيأ للاحتفال والرقص فرحا بزواج شقيقه الأكبر، ما يلبث حتى يكتشف أن الزواج مزدوج، فالأول هو فعلا زواج شقيقه ولكن الثاني هو زواج والدته من أبي صالح بائع الثلج ووالد عروس سعد والذي أدى شخصيته باقتدار الراحل خالد النفيسي، رحمه الله.
تتحول صدمة حسين النفسية إلى ما يشبه الاكتئاب الشديد وقد أدرك أن أهله تآمروا عليه وخدعوه وهو الشاب الذكي عزيز النفس والطامح لأن يصبح تاجرا وكان يزدري أبا صالح ودائم الشجار معه، يعيش حسين في حالة صمت مريب من أثر الصدمة ويمتنع عن الطعام، ما يقلق أهله فيذهبون به إلى الطبيب الذي يشخص حالته بأنه تعرض لصدمة نفسية وعليه أن يسافر لينسى صدمته ويتماثل للشفاء وينصحهم بأن يسافر إلى مصر.
لقد بدأ المطب عندما أغفل الكاتب التحول السيكولوجي في شخصية حسين بن عاقول وأهمل المعادل الموضوعي لهذا التحول، فجعل أسباب علته وهم الشقيق والخال وزوج الأم يرافقونه في رحلته العلاجية إلى مصر من أجل أن يستمر في تفجير أحداثه الكوميدية اللاحقة. لقد مر هذا المطب على الجمهور بل لم يلتفت إليه، والغريب أنه مر على محرري الصفحات الفنية ولم يذكره أحد منهم في حينه، لقد سيطر على كل من شاهد الأحداث التي جرت في مصر، الإعجاب بل والاستمتاع بهذا الكم الهائل من الكوميديا التي بدأت من أشكال الشخصيات وقد نزعت ثيابها الوطنية وارتدت ثيابا عصرية بألوان مضحكة وهم يتحركون بشكل كاريكاتيري لافتقارهم إلى الوعي بثقافة لبس السروال والقميص والمعطف، ومرورا بزواج الخال «قحطة» صانع النعال، من نبوية الخادمة، وانتهاء بالصفقات الوهمية والخيالية التي كان يحاول أن يقنع فيها «خواجة بيجو» حسين. لقد تماهت هذه السقطة مع نشاز العظماء الذي تحدثت عنه في مقدمتي، مرت بسهولة دون أن يكتشفها الجمهور ودون أن يكتب عنها ناقد أو محرر فني رغم أنها كانت واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
لو جسد شخصيات هذا المسلسل غير هذه القامات العملاقة في فنها، لسقط سقوطا مدويا، لكن الموهبة الكبيرة و«الكاريزما» الساطعة التي تمتع بها عبدالحسين عبدالرضا وعلي المفيدي وخالد النفيسي رحمهم الله، وسعد الفرج أطال الله في عمره، لم تستر الخطأ فقط، بل جملته ولم نعد نستطيع أن نتخيل «درب الزلق» لو لم يتعرض لهذه السقطة.
عليه أن يدرك من لم يتابع اشتغالات وإبداعات عبدالحسين عبدالرضا أنه حرم نفسه من السعادة وحجب عن ذائقته فن جميل قدمه إنسان أجمل، ينبض فن الكوميديا والإضحاك في شرايينه ومع كل نبضة قلب شاء الله له أن يصمت عن النبض ويتوقف عن تقديم المزيد ولكنه أنتج ما لا تسطيع الذاكرة أن تغيبه.
لك الأجر العظيم على كل متعة أو ابتسامة زينت بها ثغر مهموم طحنته ظروف الحياة، فبمثلك يحلو الكلام ويطيب القول.
سلام على روحك الطاهرة وليتقبلها الله قبولا حسنا.