في العام 1986 وقبيل زواجي وسفري إلى المملكة المتحدة لأكمل دراستي في فنون التلفزيون بعدة اشهر، رشحني حينها صديقي المخرج والسينوغرافي المميز نجف جمال لأقوم بتنفيذ الإضاءة التي صممها لتتناغم مع رؤيته السينوغرافية وتفاصيل الديكور الذي صممه هو أيضا ومؤثراته الضوئية التشكيلية (Gobs) التي من المفترض أن تنعكس على الشاشة البانورامية الخلفية، وكذلك مع المؤثرات الخاصة من مفرقعات صوتية وضوئية في مسرحية «باي باي عرب» التي كتبها المصري نبيل بدران وأخرجها التونسي منصف السويسي وقدمها الراحل عبدالحسين عبدالرضا مع نخبة من نجوم المسرح الكويتي في العام نفسه.
لم أكن موظفا مخولا للعمل على أجهزة الإضاءة في المسارح الرسمية الكويتية، وهناك موظفون يتقاضون رواتب وموكلون بهذا الأمر، لكن الأستاذ جمال أصر على أن أقوم أنا بالتنفيذ لخبرتي في هذا المجال ولتناغمي الفكري مع رؤاه، وتم الأمر.
كانت فرصة سعيدة لي أن أعمل مع نجم الكوميديا الأول في الكويت والخليج وأتعرف عليه وعلى كيفية اشتغاله، فالعمل معه حلم يراود كل فنان يطمح للتميز، سأزامل عملاق الكوميديا وسأكون معه في عمل واحد وسأتلمس عن كثب كيف يفكر وكيف يتمرن وكيف يصنع الابتسامة مع زملائه، سأكون قريبا جدا من مطبخ الإبداع.
كنت سعيدا جدا لأن أصابعي هي التي ستضيء وجه النجم عبدالحسين، وستشكل خلفيات مشاهده البصرية المميزة، كنت مسؤولا عن تنفيذ الرؤية البصرية للصديق نجف جمال، وكان علي أن أبذل أقصى جهدي كي لا أخيب ظنه بي، وقد أصر وتشبث بوجودي كما يتشبث الرسام «بباليتته».
اشتغلت.. تغمرني السعادة حتى حدث ما أزعجني وعكر مزاجي حين سمعت وشاهدت عبدالرضا يردد، على لسان شخصية من الشخصيات المتعددة التي يؤديها في المسرحية وفي اللوحة المتعلقة بعروبة فلسطين، واصفا ما يشاهده من أفلام وثائقية بالأبيض والأسود لهجرة الشعب الفلسطيني إبان نكبة مايو 1948 «كل ما تطالع فيلم عن هجرة الشعب الفلسطيني لازم تشوف رجال يخرط بنطرونه ويبول، اليهود لما احتلوا فلسطين عدلوها وسنعوها وبنوا فيها العمارات والحدائق»، انتهى الاقتباس.
حاولت أن أصمت لأن «الإفيه» عزيز على الممثل وخاصة عندما يحقق أصداء ويجعل الصالة تضج بالضحك بشكل هستيري، لقد تحول هذا «الإفيه» إلى جزء مهم من العرض، أعلنت عن انزعاجي وغضبي لصديقي نجف جمال، فبادر وتحدث مع عبدالرضا ونقل له انزعاجي وغضبي فقال له الأخير «علي فريج، نراضيه».
وفي اليوم التالي وقبل الافتتاح بنصف ساعة تقريبا ناداني رحمه الله وسألني عن سبب انزعاجي وغضبي فقلت له بالحرف الواحد: إن اللاجئ الفلسطيني لم يكن لديه حينها بيت ولا دورة مياه، كان يقضي حاجته خارج الخيمة في الأرض الواسعة التي كانت متنفسه ودار خلائه، العيب ليس بمن بال ولكن العيب بمن صور هذا الموقف، وقلت له مدافعا عن وجهة نظري ومعبرا عن انزعاجي: كل محتل يسعى لسلب صاحب الأرض حقه الوطني في تعمير بلده، مع أن فلسطين كانت قبل النكبة منارة من منارات المشرق الأوسط، وأريته صورا للمدن الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي جلبتها من سيارتي وقد جهزتها لأنني كنت أزمع التحدث مع الراحل عبدالرضا لكن دون أن أحدد ساعة الصفر.
أريته صور المسارح والسينمات في مدينة يافا، وصورا للعمارات الشاهقة والمزودة بالمصاعد الكهربائية، وحدثته عن حفلات أم كلثوم التي كانت تقدم على المسارح المميزة في حيفا ويافا والناصرة قبل النكبة، وأريته صورا من إعلاناتها.
تأثر كثيرا واعتذر لي وقال «ان ما يزعج علي فريج أكيد سيزعج الكثيرين»، ووضع سبابته على أنفه، وهذه الحركة تعني في الكويت والخليج الوعد القاطع الذي يقطعه الرجال على أنفسهم، ثم قبلني على وجنتي وذهب إلى الكالوس ليستعد للدخول إلى الخشبة وذهبت أنا إلى كبينتي العلوية مرتاحا بأنني أفرغت شحنة الانزعاج في داخلي بل وسعيدا، وقد وفى بوعده أبو عدنان لصديقي نجف «وراضاني» وقبلني أيضا.
ابتدأ العرض بعد الوعد، وكان انتهاء ما يقال عن الفلسطينيين يشكل مفتاحا لحوار الفنانة حياة الفهد، لم يقله أبو عدنان، التزاما بالوعد، فصمتت حياة بانتظار المفتاح الذي اعتادت الدخول بعده، فبادلها قائلا «ماكو حكي خلاص قولي حوارك»، وأشار إلي في الكبينة وقال لها «علي فريج يزعل»، فرمشت له بالإضاءة تحية له فضحك وتابع «طالعي.. كاهو استانس»، فضجت الصالة بالضحك وأصبح هذا الموقف «إفيها» بديلا قاله لعدة لعدة أيام.
انتهت العروض وجاء موعد تسليم المكافآت فهاتفني مكتبه وذهبت لتسلم أجري، فوجئت بأن المبلغ المخصص لي هو ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه الأكثر تميزا في تنفيذ الإضاءة.
انتابني الشك، فربما هناك خطأ ما، ورفضت تسلم «الشيك»، فاتصل المحاسب بأبي عدنان فأتى الأخير وأخذني إلى مكتبه وأعلن لي عن سعادته في عملي معه، قلت له إن أجري كبير قد يكون هناك خطأ، فرد علي والابتسامة تكلل وجهه الوسيم كالتالي «لا ماكو خطأ.. ثلث المبلغ أهو أجرك والثلث الثاني نقوطي لك بمناسبة زواجك القادم والثلث الأخير أهو دعمي لك بمناسبة سفرك للدراسة في لندن، هالله هالله عاد بالشهادة، الله يوفقك ونبيك ترد لنا مخرجا»، فشكرته وودعته وغادرت ينضح مني الإحساس بالفرح والامتنان وكأنني كنت في حلم جميل.
هذي هي كواليسي مع الراحل عبدالحسين عبدالرضا، وأكاد أجزم بأن لكل فنان كواليسه الخاصة معه التي ما إن يتذكرها حتى تنساب الدموع من عينيه مدرارة. ما أجملها من لحظة عندما تجتمع الإنسانية مع الفن، كلاهما جميل بل وكل منهما أجمل من الآخر.
سنبكيك يا أبا عدنان، فعلى أمثالك يبكي البواكي، رحمك الله وأحسن مثواك وطيب ثراك وثقل موازينك.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
كاتب ومخرج وأستاذ الدراما ـ الأردن