محمد بسام الحسيني
قدّمت الكاتبة منى الشمري عبر نصها «لا موسيقى في الأحمدي» فضاء رحبا وغنيا بالشخصيات المتنوعة بتركيبتها وأبعادها النفسية والاجتماعية إلى المخرج محمد دحام الشمري الذي انطلق في مغامرة جمالية حصادُها عمل فني مرموق ومرشح ليُنظَر اليه يوما على أنه من أهم كلاسيكيات الدراما الخليجية.
كما وقع «عضيبان» (جاسم النبهان) في حب «الفحيحيل»، من أول نظرة يقع المشاهد في حب هذا المسلسل من الحلقة الأولى. ويزداد هذا الشعور مع كل حلقة تمر، حتى إنه يستحق أن نتوقف عنده بالقراءة النقدية حلقة فحلقة، لاسيما على مستويي الحوارات والإخراج. وقبل الخوض في تفاصيل القصة لابد من الإشادة بثلاثة أمور:
أولا: الظهور المحترف الذي يقدمه الفنان جاسم النبهان فهو بالفعل كما تصفه حفيدته «لولوة» (نخلة حنان) وشخصية ترمز لجيل من الأجداد بقيمهم وتربيتهم وثقافتهم ومقاربتهم للحياة. كانوا كرماء طيبين ومحافظين ومتسامحين في كل شيء إلا قضية النسب. وعضيبان ايضا شخصية مرجعية سنذكرها طويلا في الدراما الخليجية.
ثانيا: التحرير المريح للصورة من طغيان الإطار الداخلي والاستغلال الكامل للطبيعة برا وبحرا، ليلا ونهارا، ليس كمجرد خلفية وإنما كمسرح للأحداث ساعد في بناء التكوين الجمالي للعمل.
ثالثا: الحسّ الإنساني العالي والذكاء في بناء واختيار الشخصيات ونسج أحداث القصة وتوظيفها، واستخدام الكثير من الرموز المرتبطة بتلك الحقبة، والتي كانت تداعب مخيلات الناس بأحلام الثراء مثل استخراج اللؤلؤ من البحر، وأيضا البحث عن كنوز الذهب والآثار المدفونة في البر. يعالج المسلسل توارث مشكلة عائق النسب امام الزواج، كما يطرح بشجاعة قضايا مثل التشدد الديني ومخاطر زواج الأقارب وآثاره على المواليد، كحال الطفلين المعاقين مشاري وجراح، اللذين تربط أمهما أقدامهما بمعلبات يجرانها خلفهما حتى تستدل على مكان وجودهما إذا ضاعا، وهي برأينا من اهم قضايا المسلسل اهمية.
القصة
تبدأ القصة في أربعينيات القرن الماضي بمنطقة المرقاب، حيث يعيش تاجر العقارات عضيبان الأجودي (جاسم النبهان) مع والدته (مريم الغامدي) وأخيه جاسر الذي يتنقل بين الكويت والهند. العائلة معروفة بضعف الإنجاب.
في المشهد الافتتاحي نرى عضيبان يدفن زوجته التي أنجب منها ابنه حمد، أما أخوه جاسر فله ابنة وحيدة حصة من زوجته مريم وأصولها من «عنيزة». في البيت يعيش أيضا خادم العائلة العُماني سعيد وابنه خميس الذي يكبر مع الأطفال.
تعيش حصة طفولة مليئة بالمرح والبساطة والانفتاح وتعاصر الانتقال من عهد المطوعة إلى تعليم البنات في المدارس وتتأثر بثقافة جدها.
يموت والدها جاسر الذي كان قد تركها أمانة في عنق عضيبان وتقرر والدتها العودة إلى عنيزة، فيعاملها الأخير معاملة الأب تحت أنظار جدتها.
في بداية مراهقتها تميل حصة إلى خميس وتلاحظ جدتها ذلك فتلح على تزويجها بحمد الذي يقبل الارتباط بها تاركا الحسرة في قلب خميس الذي قُتل والده سعيد على يد رجال مجهولين، وقرر عضيبان كفالته وتسليمه كنزا كان والده قد دفنه له عندما يبلغ سن الرشد بدلا من ارساله إلى عمه.
بسبب شح الأراضي والحوط في المرقاب وتهديد تلقاه بإيذاء ابنه، يعمل عضيبان بنصيحة احد اصدقائه ويشتري أراضٍ بالفحيحيل التي سحرته بجمالها ثم ينتقل إليها للسكن مع أسرته رغم تخوف والدته من بُعد مسافتها عن المرقاب، حيث كانت تُوصف بـ «آخر الدنيا»!
تنتقل العائلة إلى حياتها الجديدة ومعهم عدد من الخدم والعمال.
بالقرب من الفحيحيل تقع مدينة الأحمدي الناشئة والعصرية التي بناها الإنجليز على أحدث طراز واستقطبت نخبة من الأسر الأجنبية والعربية.
يتوظف حمد الذي يلعب شخصيته بعد أن كبر (د.فهد العبدالمحسن) في شركة النفط ويتعرف على مهندس عراقي شيوعي ويعجب بابنته جليلة (نور) التي تسحره بجمالها ودلالها فيقرر الزواج بها. يُبلغ والده الذي يشترط لإتمام الزواج موافقة حصة (تؤدي دورها بعد أن كبرت فوز الشطي) فتطلب الطلاق بداية، ثم توافق على مضض وتجرحها إهانات حمد «انت صبخة وما يجي من وراك ولد وأبي ولد يحمل اسمي».
تنجب حصة 3 بنات أصغرهن عائشة وتعيش معها، وجليلة 3 صبيان أحدهم يتوفى صغيرا ويبقى سعود (عبدالله السيف) وعمر (ناصر الدوسري) وابنة تدعى لولوة (شيماء) تحمل اسم جدة أبيها وتكبر لتكون الأقرب إلى قلب جدها عضيبان.
بسبب طيبة حصة ونقاء سريرتها، يجد أبناء حمد فيها أما ثانية بكل معنى الكلمة، خاصة لولوة التي تعرضت لتعذيب والدتها في صغرها كون جليلة تكره إنجاب البنات.
خميس الذي انتقل بدوره إلى الفحيحيل مع الأسرة يتزوج وينجب سيف (علي كاكولي) المثقف الذي يدرس الطب. وبعد قصة حب حصة وخميس التي فشلت يكرر التاريخ نفسه مع الأبناء لولوة تحب سيف، وأخوها سعود - الطائش وزير النساء رغم تحذيرات جده «غضوا البصر واستحوا صرتوا رجاجيل والبنات صاروا حريم» - يحب زينب ابنة كوثر «العيمية» التي يعزها عضيبان كثيرا، لكنه يذكرها بفارق النسب «حلات الثوب رقعته منه وفيه»!
تتعقد الامور عندما يقرر عضيبان تزويج لولوة من عثمان الذي ينتمي الى اسرة محافظة ومتدينة ومتمسكة بشكل متشدد بالعادات والتقاليد.
جليلة رغم كل عيوبها تنظر لسيف كأحد أبنائها وسعود كرمز للجيل الجديد، يشارك والدته هذه النظرة، فنراه يرد على تساؤل سيف: «سأتزوج البنت التي أحبها حتى لو عارض جدي، ثم بعد فترة آتي إليه مدعيا الانكسار وأطلب مسامحته».. لكن هل سيكرر التاريخ نفسه؟!..
التمثيل
كما سبق وذكرنا يقدم الفنان جاسم النبهان أداء مثاليا لشخصية عضيبان في مختلف مراحلها مع تغيير خالٍ من الاخطاء شكلا ومضمونا في المراحل العمرية للشخصية. ورغم كل القوة والعزة التي يظهرها، نراه يبكي في موقفين، وتشدنا علاقة العم-الأب التي تربطه بحصة، وكذلك رعايته لولوة حفيدته المفضلة كوردة، رغم انه وبسبب نظرته للحياة لا يفهمها، فيسألها: «ليش ذبلانة؟» من دون ان يدرك ان طريقته في تزويجها هي السبب.
وإلى جانب التمثيل المؤثر يسحر النبهان المشاهدين بإتقان الأداء الصوتي الذي يُكسب الشخصية وقعا وثقلا استثنائيا.
حصة (فوز الشطي) تقدِّم أداء يعيد إلى الأذهان الفنانة المصرية عبلة كامل بدور الأم في بعض كلاسيكيات الشاشة العربية بكل عفويتها وتلقائيتها واحترافها وقدرتها على لعب ادوار اكبر من سنها. فوز ممثلة من الطراز الرفيع وعامل رئيسي في نجاح المسلسل.
من جهتها، تتميز جليلة (نور) بلهجتها العراقية، وتقدم ثنائيا ناجحا مع حمد (د.فهد عبدالمحسن).
والفارق بين الشخصيتين يُعبَّر عنه بوضوح في مشاهد عديدة تعكس التباين، وابرزها المشهد الذي تسأل فيه جليلة حصة عن الفتاة بشرى (خديجة الشايع) وان كانت خادمة جيدة، لترد عليها حصة: «بشرى مو خدامة.. بشرى حسبة أخت كانوا جيرانَّا، وامها وابوها توفوا بحادث».
مفاجأتا العمل هما، لولوة (شيماء الكويتية) التي تتبادل مع سيف دور الراوي وتقدم ظهورا شدّ الأنظار نحو موهبة كبيرة وواعدة جدا، وكوثر (فاطمة الطباخ) التي تقدّم «كاركتر» مميزا مرتبطا بالأنماط والعادات والتقاليد في البيئة التي تمثلها وتؤديها بواقعية شديدة مثيرة فعلا للإعجاب.
من جانبه، يجيد عبدالله السيف أداء دور سعود الذي من الواضح انه استعد له جيدا، ولأول مرة نرى عبدالله بهذا المستوى المميز والقدرات التمثيلية، وساعد مظهره الذي يعتني به كثيرا في جعل الشخصية أكثر قربا وإقناعا، وهو نجم المسلسل.
علي كاكولي يؤدي بشكل اعتيادي دور «سيف»، وكنا نتوقع منه تفاعلا أكبر، وربما يكون السبب أنها شخصية مكررة بالنسبة إليه في مسيرته. مشاهده الأجمل هي مع والده خميس وتأثره بقضية النسب وكلاهما قد مرَّ بالتجربة وعانى منها.
يحيط بالعائلة حشد من الشخصيات النمطية التي تساعد في إثراء الأحداث، ومنها بشرى (خديجة الشايع)، وبزة (انتصار الشراح)، وعكش، ودولار واطفال المسلسل.. جميعهم موظفون بشكل جيد.
وهناك أيضا الثنائي محمد (عبدالمحسن النمر) ووضحة (فيّ الشرقاوي) اللذان يقدمان خطا خاصا جميلا وإنسانيا. ورغم صغر دورهما لابد من الاشادة بناصر الدوسري الذي يلعب دور الاخ الاصغر بتميز، وعائشة (رهف محمد) التي تضفي جوا طفوليا لطيفا، واجمل مشاهدها كان انقاذ سعود في الحلقة الخامسة من ورطة اكتشاف كوثر له انه عند باب منزلها ويتحدث مع ابنتها زينب (ايمان الحسيني).
الإخراج
مع تقدم حلقات المسلسل نتحول أكثر فأكثر نحو صورة سينمائية ضمن رؤية إخراجية جميلة انطلقت بألوان قريبة جدا من الأبيض والأسود في الحلقات الثلاث الأولى، ثم بدأت الألوان تشرق وتعبر عن الانتقال إلى بيئة جديدة على البحر ومنازل مختلفة وتغير كبير في أسلوب الحياة.
بين المرحلتين توجد فترة كاملة عبّر عنها المخرج بطريقة ذكية بدأت مع صورة ثابتة لحمد وجليلة في العرس ألحقت بحركة تشد الانتباه، وتلتها سلسلة من الصور قدمت لنا العائلة بصورة عامة. ولاحقا مع تقدم الأحداث تبدأ عمليات الاسترجاع السردي الذي استخدم فيه المخرج عمليات مزج وتصوير للقطات بعضها يُوظَّف لأول مرة في الدراما الخليجية.
وإلى جانب الاختيار الخلاق لبعض الزوايا والكوادر يستعرض المخرج محمد دحام مهاراته وخياله ويحوّل رحلة محمد (عبدالمحسن النمر) في البر وحياة العائلة بين الشاطئ والطرق المحاطة بالأعشاب إلى صورة جديدة على عين المشاهد في هذا النوع من الاعمال.
إننا باختصار أمام إخراج مُتقن لكن الأهم أنه متقدم يجدد الدراما الخليجية ويدفع بها نحو مستوى أعلى.
مقدمة العمل كئيبة بعض الشيء، اما الموسيقى التصويرية ففي غاية الروعة، وكذلك الموسيقى الداخلية المستخدمة في المشاهد بحسب الموقف، مثل الاغاني العراقية المرتبطة بجليلة وبالبصرة التي كانت تجتذب لزيارتها الناس في الكويت، وموجة الاغاني الاجنبية التي نتجت عن الانفتاح الكبير الذي حمله الانجليز معهم، ولا يفوتنا ايضا ان نُشيد بالأغاني الشعبية التي تؤديها حصة بصوتها الرخيم في عدة حلقات ومواقف.
النص
قبل سنوات، حازت رواية «لا موسيقى في الأحمدي» باستحقاق جائزة الدولة التشجيعية في الكويت ولا غرابة في ذلك.
فنحن أمام قصة غنية العناصر تقدمها الكاتبة منى الشمري في سيناريو محترف وحوارات تترجم بصدق ودقة يلمسها المشاهد بأجواء الحقبة التي يتناولها العمل، فالبحث الدقيق نتائجه جليّة، كما أن اختيارها للشخصيات وبنائها وتوزيعها بهذا الشكل ينم عن مهارة روائية كبيرة. ومن حسن الحظ أنها رواية تحظى بتحويل إلى الشاشة لا ينتقص من قيمتها وبريقها، بل يقدمها كعمل يصح أن نقول فيه إنه توأمة للجمال بين النص والصورة.
اقرا ايضا