الأدب الساخر هو الفن الأدبي الذي يستطيع من خلاله الناس التنفيس عما يختلج صدورهم من هموم وأوجاع لا يستطيعون الكشف عنها مباشرة فهو بمنزلة الكبسولة التي تعطي الكثير رغم صغر حجمها.
وإذا ما تحدثنا عن هذا الأدب في المسرح العربي والخليجي فسنجد أن له باعا طويلا منذ قرون مضت، بداية على المستوى العربي، فالمسرح المصري تربع على عرش هذا النوع من الأدب من خلال مسرحيات شهيرة مثل: «مدرسة المشاغبين» و«العيال كبرت» وكذلك مسرحيات محمد صبحي، فقد بدأت هذه المسرحيات تحديدا بعد حرب اكتوبر (عام 73) وهو ما يفسر وجود حرية فكرية آنذاك تزامنت مع وعي الناس وحاجتهم للذهاب بتفكيرهم إلى قضايا من شأنها صنع حراك مجتمعي وثقافي متفرد وهو ما جعل الكتاب يتنافسون في تقديم أفكار ذات قضايا جوهرية مختلفة.
كذلك فإن المسرح حينها كان نافذة مهمة يجتمع من خلالها الناس من مختلف الطبقات فهو بمنزلة المنصة التي تنطلق منها الأصوات التي تطالب بحقوق المواطن، وهذا التمازج بين ما يريده الجمهور من ملامسة لواقعه المر وبين ما فطن إليه الكتاب والمنتجون من ضرورة استخدام الأدب الساخر أخرج لنا روائع مسرحية خالدة استطاعت النفاذ إلى عقل المواطن بأفكارها وإلى قلبه بعاطفتها وإلى روحه بكوميديتها، فهو لم يشعر بأنه يتلقى مادة تعليمية تعرفه بحقوقه وواجباته بل كانت وجبة دسمة قادرة على صنع نهضة توعوية وثورة ثقافية.
وليس المسرح الخليجي بمنأى عما كان يدور حوله من نهوض فكري في شتى المجالات وقد قاد هذا المسرح امبراطور الفن الخليجي الراحل «عبدالحسين عبدالرضا» الذي أفنى حياته وهو يحارب ويناصر المواطن العربي في مختلف همومه، بالإضافة إلى كوكبة من الجيل الذهبي الذين شاركوه أعماله الخالدة منهم: سعد الفرج والراحل خالد النفيسي والراحل غانم الصالح والراحلة مريم الغضبان وحياة الفهد وسعاد عبدالله ومريم الصالح وخالد العبيد وهيفاء عادل وداود حسين وغيرهم من النجوم ممن لم يتوانوا في مناقشة أي قضية من شأنها المساس بالمواطن العربي عامة والخليجي خاصة.
شغلت «حسينوه» - كما يحب الخليجيين تسميته - العديد من القضايا الكبرى التي أثرت في مسار التفكير العربي آنذاك، وأهمها قضية (استكشاف النفط في الخليج) وقد تمثل ذلك في رائعته الخالدة «باي باي لندن» التي عرت الكثير من العقول الخليجية بعد ثورة النفط، فكشف من خلالها تأثير هذا الاكتشاف بدءا من المواطن البسيط مرورا بالعلاقات الداخلية للدولة وصولا إلى علاقاتها الخارجية وليس انتهاءا بمطامع الدول الكبرى، ولم يقف الراحل ابوعدنان عند النجاح المدوي لتلك المسرحية بل تبعها بعد ذلك بمسرحيته «باي باي عرب» التي كانت بمنزلة الجرح العربي الملتهب الذي يحاول تضميد نفسه من خلال المناداة بالوحدة العربية مازجا الخيال بالواقع والحلم بالسراب فقد كرر نداءات كثيرة عبر من خلالها عن أمنياته للوحدة الخليجية بين دول مجلس التعاون ثم حلمه المنتظر بوحدة عربية رغم الكثير من المعوقات والمخاوف.
أما عن نقطة التحول من المسرح السياسي إلى المسرح الاجتماعي فقد تمثلت في مسرحية «هذا سيفوه» فقد كانت الفيصل في الكشف عن العديد من الشخصيات التي تهيمن على سوق النفط، فحسب ما ذكر في أحد المواقع أن «المسرحية انتقدت بداية بعض التجار في مرحلة ما قبل النفط إلى أواخر1959 وتحدثت عن علاقاتهم مع المبعوث البريطاني ومن ناحية أخرى كانوا يرسلون الطلاب في بعثة إلى البحرين والهند وعدد من الدول الأخرى للدراسة» ولكن كما هو متعارف عليه فقد منعت من العرض بعد 10 أيام من تقديمها.
وبعد أن تم ايقاف مسرحية «هذا سيفوه»، انقطع عملاق الفن عن خشبة المسرح ولكن بعد الغزو العراقي انتظره الجمهور بشدة فعاد إليهم بمسرحية «سيف العرب» التي جسد من خلالها بجرأة شخصية الراحل صدام حسين، والجدير بالذكر أن المرحوم عبدالحسين تعرض خلال سنوات لاحقة لمحاولة الاغتيال، وبغض النظر عن المتسبب في العملية فإنه لا يوجد فنان الآن بإمكانه تقديم مثل هذه التضحيات في سبيل الدفاع عما يؤمن به.
توالت أعمال الراحل بعد ذلك بعيدا عن المواضيع السياسية ولعل أميزها مسرحيتا «مراهق في الخمسين» و«قناص خيطان» ففي كل مسرحية نجده بشخصية متفردة يعطي من خلالها كل ما لديه ليرسخ معالمها في ذهن المشاهد، كان المرحوم فارسا يصدح على خشبة المسرح بفن وذوق وأخلاق، كان ساخرا لكنه لم يكن متهكما ولم يفقد الأمل في اصلاح مفاصل المجتمعات، رحل حسينوه وبقيت مدرسته الفنية صرح من صروح الخليج والعرب.
ختاما لا تكمن أهمية هذا النوع من المسرح في فك وتركيب العديد من الأفكار فقط، بل تتجاوز ذلك لتكون هي المحرك الأساسي لصناعة رأي عام حول أي قضية مثيرة للجدل، ولولا وجود الأدب الساخر فيه لما حققت انتشارا واسعا إلى اليوم، ولكن في ظل الثورة التكنولوجية وتعدد مصادر المعرفة الآن لم يعد الأدب الساخر يتخذ مساره الصحيح فنيا سواء على الصعيد المسرحي أو السينمائي، وذلك لعدة أسباب: أبرزها في عدم اعطاء هذا النوع من الأدب حقه فقد حوله بعض الدخلاء عليه إلى مسالك إلى التهريج والإسفاف بغية صنع كوميديا عوجاء عوضا عن الكوميديا السوداء!، كما أن المسرح لم يعد هو الصرح الوحيد لتصدير الوعي وبذلك يتراجع كلاهما في خلق ثورة معرفية.
الكاتبة: وداد المانعية
سلطنة عمان