بقلم: يوسف الحمدان - مملكة البحرين
إن الجهود الكبيرة التي اضطلعت بها مؤسستا الفهد الكويتية وجرناس الإماراتية من أجل إنتاج المسلسل الدرامي التلفزيوني (أم هارون) الذي تم عرضه في الـ mbc خلال شهر رمضان الماضي لا يمكن تجاوزها أو صرف النظر والاهتمام عنها، كونها، كما زعم بعض من ابتسر المسلسل كله من عنوانه، ترويجا للتطبيع مع إسرائيل أو خيانة في حق التاريخ القومي لدولة فلسطين والأمة العربية، وهو في رأيي ابتسار، حيث لم يكلف نفسه حتى مشاهدة أولى الحلقات من هذا المسلسل، أو حتى يقف على الجهد الفني الذي من حقه أن يقترح رؤيته الدرامية والتخيلية على المعطى التاريخي أو الوثائقي للمادة المتناولة أوالمستثمرة في هذا المسلسل، وهو أمر أشبه بالنوايا المبيتة ضد هذا المسلسل ومنتجيه.
لقد شاهدت وتابعت المسلسل أكثر من مرة وحرصت على ألا أتناوله وأنا مزحوم بهم الجدل السياسي التاريخي الانفعالي العقيم حول صحة ما ورد من أحداث إبان أربعينيات القرن الماضي في الخليج العربي، وتحديدا في الكويت والبحرين، أو من عدم صحة ما ورد، إذ إن هذا الجدل حدا بالبعض على أن يفسر العلاقة التاريخية بين اليهود والمسلمين في الخليج بأنها نوع من التطبيع شاءت له أنظمة الحكم آنذاك، مثلما حدا بالبعض الآخر على أن يفسرها بأنها دعوة فاضحة من المنتجين (حياة الفهد وأحمد الجسمي) والمؤلفين (الأخوان محمد وعلي شمس) للتطبيع من خلال الدراما التلفزيونية أو الوسائط الإعلامية، والتطبيع في حد ذاته كمصطلح سياسي لم يبزغ نجمه إلا عام 1979 حين وقع الرئيس المصري الراحل أنور السادات معاهدة السلام مع إسرائيل، أي بعد أحداث مسلسل «أم هارون» بأكثر من ثلاثة عقود، فكيف إذن نتعاطى هذا المصطلح في ظل غيابه خلال تلك الفترة ولا يوجد في أحداث المسلسل؟!
وإذا وقفنا على أحداث المسلسل فسنجد نقيض هذه التهمة التطبيعية التي روج لها البعض و(استحلاها) في تصريحاته المتشنجة المنفلتة وفي زعمه واتهاماته التي لا تقف على دلائل وإثباتات يمكن الاتكاء على صحتها، إذ ماذا يعني رمي (رفقة) ابنة الحاخام داود الزجاج الجارح قرب عتبات مساجد المسلمين في الحي؟ وماذا يعني تلويث اليهود لآبار المسلمين وتسميمها بالكلاب النافقة؟ وماذا يعني تبييت نية القتل المتعمد من قبل الحاخام داود لحبيب ابنته راحيل محمد ابن إمام مسجد المسلمين في الحي؟ وماذا يعني محاولة شروعه في قتل ابنته راحيل في المعبد بسبب حبها لمحمد؟ وماذا يعني تآمر الحاخام داود على الملا عبد السلام بتوريطه في التخابر أو العمالة للإنجليز؟ وماذا يعني فضح نوايا اليهود الدموية بجمعهم الأسلحة وتهريبها إلى الخارج لتقوية عضد إسرائيل واستخدامها لإبادة المسلمين؟ فأين التطبيع في مثل هذه النوايا والأفعال الدموية المقيتة؟ وهل كان في المسلسل أحد من مسلمي الحي أيد مثل هذه الأفعال أو انحاز إليها مثلا؟
بالمقابل، ومثلما أدان المسلسل التطرف والعنصرية لدى اليهود، كذلك أدان المتواطئين من المسلمين لمصالحهم الخاصة ضد مصلحة المجتمع برمته، وكان النموذج البارز فيهم التاجر بوسعيد الذي لا تختلف مآربه ونواياه وأفعاله عن مآرب ونوايا وأفعال الحاخام داود، إذ ليست لديه مشكلة في أن يقتل ابن أخيه وأمه أم هارون من أجل مصلحته الخاصة، وليست لديه مشكلة في أن يحرق قلب اليتيمة زنوبة بهدمها لـ (حظرة) أسماكها التي تترزق منها في الحي، وليست لديه مشكلة في أن يتزوج حبيبة ابن أخيه مريم، وليست لديه مشكلة في أن يدس السم بدواء عائلته، وليست لديه مشكلة في أن يبعد يديه ويصرف نظره عن كل التهم الموجهة للحاخام داود، فهل كان المسلسل منحازا للطائفة اليهودية، وهو الذي يعري ويفضح بالمثل مآرب وأفعال المتواطئين لمصالحهم من الطائفة الإسلامية؟
ماذا بقي إذن كي نعلقه على شماعة التطبيع؟ أعتقد أنه لم يبق غير الحب، الحب المحموم بالنبل والعفة والمجرد من كل ملوثات الطوائف وآفاتها بين محمد ابن الملا عبدالسلام وراحيل ابنة الحاخام داود، فهل نصنف هذا النوع من الحب في خانة بنود اتفاقية التطبيع بين المسلمين واليهود؟ وهل العلاقات بين المسلمين واليهود محرمة؟ أم ان التطبيع مصطلح سياسي يتجاوز حدود الأديان ليقف عندها بوصفها معتقدا سياسيا ملزما لليهودية بوصفها صهيونية ذات مآرب أبعد من حدود فحوى الكتاب؟ فإذا كان الأمر كذلك في هذه العلاقة العاطفية النقية بين محمد وراحيل فعلينا أن نعلق المشانق لكل العشاق باختلاف أديانهم وطوائفهم، وعلينا أن نحرم رواية «قصة حب مجوسية» للروائي الراحل عبدالرحمن منيف، وندين كل من تزوج من غير دينه وما أكثرهم.
يحسب لمسلسل «أم هارون» أنه أثار جدلا سياسيا لم ينته بعد، وطرق أبواب المسكوت عنه في منطقة الخليج، ويحسب للأخوين شمس أنهما في تأليفهما لهذه العلاقات المتعددة المركبة بين أبناء الطائفتين المسلمة واليهودية قد اتكآ على بعض المراجع الرئيسة التي عايشت تلك الفترة التاريخية ومن بينهم عضو مجلس الشورى البحريني نانسي خضوري التي وثقت في كتابها «من بدايتنا إلى يومنا الحاضر» تاريخ العلاقات بين المسلمين واليهود وأثر التعايش والتسامح الديني على سلوكياتهم وحياتهم العامة، الأمر الذي سمح للمؤلفين بأن يجوسا من خلال هذه المراجع أعماق المسكوت عنه ويتصورا كيفية نسجه وفق رؤيتهما الدرامية.
وتتعمق هذه الرؤية برؤية مخرج المسلسل الفنان محمد جمال العدل المبدعة في قراءتها للعلاقات الإسلامية - اليهودية المتعددة المركبة في أحياء الكويت التي لا تبتعد كثيرا في تشابهها عما يحدث في الحي اليهودي بالبحرين والتي عايشناها في طفولتنا وصبانا، والتي برزت من خلال تعدد دلالات الأبواب التي تباغتك منذ الحلقة الأولى حتى نهاية المسلسل، فللأبواب في مسلسل أم هارون تاريخ ينضح بالحياة وبالأسرار، فهي مفتوحة على بعضها ومغلقة في الآن نفسه عبر الأسرار التي تتخفى بين ثنايا جدرانها، كما أنها حملت علامات يدرك أيقوناتها من عاش تلك الفترة، خاصة المسلمين واليهود، فهي مخبأ الأسرار، القهر، الحب، العلاقات المحرمة، الجرائم والحرائق والفقر والمباغتات والدسائس والمؤامرات والود والحميمية والفضح، إنها بيوت وأبواب مفتوحة على بعضها البعض وكأن كل البيوت في الحي مكشوفة ومغلقة في آن واحد.
ومن أعقد الأدوار التي شدتني وجذبتني نحوها بقوة دور الفنان الكبير أحمد الجسمي (بوسعيد)، هذا الإنسان او ابن الشر والمكر والخديعة، الذي يعتبر ذخيرة الأسرار المرة التي تفجرت في المسلسل كله، العارف بكل الأمور، والمسيطر على كل الأشياء، والمخضب بالدم والجريمة والسطوة، فمنذ أعلن كل الأسرار وباتت الأمور واضحة لم يعد في قلبه ما يمكنه أن يهدئ من روعه، أو يحمي ضحيته وإن كانت من أقرب دمه ولحمه وروحه، هو محور المسلسل كله بما يستبطنه من أسرار باتت أشواك شر في طريق من يعترض دربه حتى صار ضحيتها في نهاية الأمر.
أما الحاخام داود الذي قام بدوره الفنان المبدع المتألق عبدالمحسن النمر، فكان أنموذج التطرف والتعصب الديني والعرقي للديانة اليهودية في هذا المسلسل، وكان ممسكا حقا بتلابيب دوره وقائد لعبة الصراع الديني في الحي، هذه الشخصية الشحيحة (الشايلوكية) القلقة من كل ما يحيط بها بمن فيهم زوجته الضحية مسعودة التي أدتها باقتدار الفنانة آلاء شاكر، أو ابنته العاشقة راحيل التي أدتها بتمكن وتميز الفنانة روان مهدي، هذه الفنانة التي رسمت شخصيتها بالحزن والقلق الصامت القاتل فتفوقت في تجسيدهما.
وتعتبر الفنانة الكبيرة والقديرة سعاد علي البوابة السرية الأخرى في حياة زوجها بوسعيد، والتي تقرؤها في أدائها من عينيها ومن إيماءاتها الدقيقة المحسوبة والمعبرة، وهي الجسر الآخر في بناء روح الحي بجانب أم هارون، وهي الضحية والجلاد رغما عنها في آن معا، فهي كعادتها حضورها بحجم الألق.
في المقابل، نقف على دور الفنانة فخرية خميس في أدائها لشخصية آمنة زوجة الملا عبدالسلام، المرأة المحبة بسذاجة، وهي فعلا فاكهة المسلسل بخفة ظلها، ويهمني أن أقف على دور الفنان فؤاد علي في دوره جبر أو هارون، حيث تمكن من الاكتناز بالحقد على كل ما يحيط به في هذا الحي، وظل مضطرب العلاقة مع عمه وزوجته مريم، التي أدت دورها فاطمة الصفي باقتدار وبإقناع، كما استوقفني الفنان القدير محمد جابر الذي قام بأداء دور الملا عبدالسلام، وهو واحد من أهم الأدوار التي رأيته فيها، فهو الملا صاحب الروح القومية والمتعصب لدينه والرافض لزواج ابنه محمد (محمد العلوي) الذي جسد دور العاشق بما تحمل هذه الكلمة من معنى.
كل الأدوار في هذا المسلسل موفقة في أدائها خاصة آلاء الهندي في دور المجذوبة «زنوبة» التي أعتبرها محور الحركة الحية في الحي كله.
هذا هو مسلسل «أم هارون» كما قرأته من زاويتي الفنية، ونحن في انتظار مشاهدة الرحلة الأخرى بعد هجرة الحاخام داود وأسرته إلى إسرائيل.. فتحية من القلب لمن أنتج هذا المسلسل.