كانت جائحة ڤيروس كورونا وبالا على سوق العمل العالمي الذي لا يزال حتى هذه اللحظة وبعد أكثر من 15 شهرا على ظهور الڤيروس، يعاني من اضطرابات عميقة وحادة لا يبدو أنها ستهدأ في وقت قريب.
في أميركا على سبيل المثال، والتي بدأت الاحتفالات (المبكرة) بالتعافي الاقتصادي لعام 2021، حذر الاحتياطي الفيدرالي من أن الفجوة في سوق العمل بالولايات المتحدة لاتزال كبيرة، وأن السوق لا يزال بحاجة لقرابة 10 ملايين وظيفة أخرى كي يعود إلى نفس المستويات المسجلة قبل عام.
الأزمة أججت أيضا المخاوف من التحولات المرتقبة في سوق العمل بسبب مفاهيم مثل العمل عن بعد والاعتماد المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات للقيام بالمهام التي اعتاد البشر فعلها، حيث رأى محللون أن هذه الاتجاهات ستتسارع بفعل قلق أرباب العمل من الاضطرابات المشابهة.
الابتكارات الرقمية رغم أنها تخلق فرصا في أماكن جديدة من السوق، فإنها قد تشكل تهديدا ليس فقط على الوظائف القائمة ولكن حتى على حقوق العمال المستفيدين منها، وبحسب منظمة العمل الدولية، فإن منصات مثل «أوبر» و«آب ورك» تقدم أجورا زهيدة وامتيازات ضعيفة.
وبالعودة إلى الأضرار المباشرة للجائحة، فإنها دمرت ملايين الوظائف بشكل سريع، متسببة في تراجع عمليات التوظيف بوتيرة أكبر 14 مرة مما حدث بعد الأزمة المالية، وارتفعت البطالة إلى مستويات غير مشهودة منذ 90 عاما تقريبا في بعض البلدان، ناهيك عن اتساع فجوة الدخل.
هناك الكثير ممن يخشون الآن من أن سوق العمل في فترة ما بعد الوباء سيكون سوقا يشهد ارتفاعا مستمرا في عدم المساواة والبطالة، مع الاستعانة بمصادر خارجية (متعهدين) أو إسناد المهم ببساطة إلى الروبوتات والذكاء الاصطناعي.
قلق مشروع أم حنين للماضي؟
في الحقيقة، الخوف من وضع سوق العمل بعد الجائحة أو حتى الأتمتة ليس بجديد، فمنذ قيام الرأسمالية أعرب الناس عن أسفهم لعالم التوظيف لاعتقادهم الدائم أن الماضي كان أفضل من الحاضر وأن عمال العصر عوملوا معاملة سيئة بشكل استثنائي.
وجادل «آدم سميث» بأن القطاع الصناعي المزدهر في أواخر القرن الثامن عشر في اسكتلندا لديه القدرة على جعل العمال «أغبياء وجهلة قدر الإمكان»، واعتقد «إميل دوركهايم» أنه في الماضي المجيد لفرنسا، كان الناس يستمتعون بالعمل لأنهم كانوا يسيطرون عليه وكانوا بارعين فيه، لكن «تلك الرأسمالية سرقت كل هذا».
مخاوف وحجج مماثلة تتردد كل فترة (حتى خلال العصر الذهبي للتوظيف في الخمسينيات والستينيات)، وقبل وقت قصير من تفشي الوباء في أوائل العام الماضي، كانت الحكمة السائدة هي أن عمال القرن الحادي والعشرين عالقين في وظائف غير آمنة وذات أجور زهيدة ويواجهون مستقبلا أسوأ بسبب الروبوتات الأكثر ذكاء.
ولكن تحليل حديث ركز على 37 دولة هم أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يدحض هذه الادعاءات ويجادل بأن التصورات الشائعة حول عالم العمل مضللة إلى حد كبير، ويقول إن سوق العمل قبل «كوفيد 19» كان بعيدا عن الكمال، لكنه كان أفضل مما ادعى العديد من النقاد.
واقع مغاير لخيال المنظرين
وفي عام 2019، كان معدل البطالة في العالم الغني أقل من أي وقت مضى منذ الستينيات، وفي أميركا، كانت البطالة بين السود هي الأدنى على الإطلاق، كما كانت كذلك في بريطانيا. وانخفضت أيضا بطالة الشباب، التي بدت ذات يوم مستعصية (خاصة في أوروبا).
وبلغ معدل التوظيف في سن العمل أعلى مستوياته على الإطلاق في أكثر من نصف البلدان الغنية، وكانت المفاجأة الكبرى للعديد من الاقتصاديين اليمنيين هي أن طفرة الوظائف هذه حدثت حتى مع ارتفاع الحد الأدنى للأجور في جميع أنحاء العالم الغني رغم زيادة الهجرة، فيما كانت الصدمة لليسار تتمثل في أن الرأسمالية تحقق مكاسب واضحة لمن هم في الترتيب الأدنى في سوق العمل.
وفي أواخر عام 2019، كان الدخل في الدول الغنية ينمو بنسبة 3% تقريبا سنويا، وكانت مداخيل الأمريكيين ذوي الأجور الأضعف تزداد بنسبة 50% أسرع من أجور أصحاب الدخل الأعلى، ومع ذلك، فمن الصحيح أيضا أن التفاوت في الدخل كان مرتفعا بالمعايير التاريخية.
لكن بحلول أواخر عام 2010، لم يعد هذا التفاوت يرتفع، وربما بدأ ينخفض قليلا، حيث انجذب الأشخاص الأكثر حرمانا إلى طفرة الوظائف، وكان هناك عدد أقل من الوظائف منخفضة الأجر، والتي تعرف بأنها تلك التي تدفع أقل من ثلثي الأجر المتوسط.
وخلص بحث لكلية لندن للاقتصاد إلى عدم وجود «اتجاهات جديدة بشأن انعدام الأمان الوظيفي رغم الارتفاع المزعوم للعمالة غير المعيارية»، وعلى العكس انخفضت نسبة العمال الألمان الذين شعروا بعدم الأمان بأكثر من النصف في عام 2019، مقارنة بالعدد المسجل في منتصف العقد السابق.
وفي عام 2019، وجدت مؤسسة «غالوب» الأميركية لاستطلاعات الرأي أن نسبة الأمريكيين الراضين «كليا» أو «نوعا ما» عن وظائفهم كانت ثاني أعلى نسبة منذ بدء الرصد في عام 1993، كما ارتفعت أيضا مقاييس مختلفة للرضا الوظيفي في أوروبا.
ما بعد الوباء
التغيرات التي فرضها الوباء مثل العمل عن بعد ستمنح العاملين مزيدا من المرونة بشأن متى وكيف يكسبون رزقهم. أيضا كانت الحكومات فاعلة أكثر في سوق العمل بسبب مخاوف الأزمة، وهو اتجاه متوقع استمراره بما يجعل السوق صحيا خاصة للأسر منخفضة ومتوسطة الدخل.
العمل عن بعد لن يكون النموذج السائد، ولكن سيجرى المزج بين العمل من المكتب والمنزل، حيث وجدت دراسة لـ «Slack» أن 72% من العاملين في مجال المعرفة يفضلون النظام المختلط هذا، فيما انقسمت النسبة الباقية (28%) بين العمل عن بعد ومن المكتب.
وخسائر الوظائف التي تسبب فيها الوباء، ستعوض مع استمرار تعافي الاقتصادات، وفي ظل تبني الحكومات حزم تحفيز هائلة (يبحث الأميركيون إنفاق 2.3 تريليون دولار على البنية التحتية)، أما الأتمتة والرقمنة فلا ينبغي أن تخيف العمال كثيرا بشأن استعادة وظائفهم، لكن الأمر سيتطلب بعض المجهود لإبقاء الإنسان محور سوق العمل في المستقبل البعيد.
ومن المهم أيضا الإشارة إلى صعوبة أن يكون هناك انفجارا في الأتمتة في سوق منكمش بالفعل ولا يزال يصارع بحثا عن التعافي، لذا فإن التكنولوجيا لا تشكل عبئا على المدى القصير وربما المتوسط. ويجب أن ينصب الاهتمام على سرعة انتعاش سوق العمل، وهي مسألة وقت قبل عودته إلى ما كان عليه وربما أفضل.
وعندما يحين موعد المواجهة، سيكون من السهل الحفاظ على أهمية الإنسان في سوق العمل عن طريق استراتيجيات رئيسية منها، إعادة تصميم العمل للتركيز على ما يمكن تحقيقه باستخدام التكنولوجيا لتمكين ورفع القدرات البشرية، وإطلاق العنان للقوى العاملة مع تسخير التقنيات الحديثة في ذلك وتهيئة أماكن العمل من ناحية التنظيم والثقافة والتوقعات حول التعاون والتواصل بين العاملين.