- الفائض المالي الضخم يخول الكويت التحول إلى دولة متقدمة اقتصادياً ومالياً.. فمتى نبدأ؟
- دول الجوار.. السعودية والإمارات وقطر سبقتنا بأشواط.. فلماذا التأخير؟!
المحرر المالي
كثر الحديث خلال السنوات القليلة الماضية عن إصلاح الميزانية العامة للكويت وإعادة هيكلة الوضع المالي للدولة واختلال التوازن في الاقتصاد الوطني باعتماده بشكل رئيسي على القطاع النفطي، حيث اتفق خبراء واقتصاديون ومؤسسات مالية كثيرة على أن الاصلاح المالي ضروري وملح، وان الميزانية العامة للدولة قد تعاني من العجز المالي بعد فترة لا تتعدى الخمس سنوات اذا استمرت المصاريف الجارية بالارتفاع حيث انتفخت الرواتب وتضخمت المصاريف الجارية بينما الايرادات بمجملها نفطية ترتبط بشكل وثيق بأسعار النفط المتقلبة والتي لا سيطرة للمنتجين عليها وتتحكم في تحديدها عوامل العرض والطلب.
هذا التوصيف الفني افترض أن تتم المعالجة بترشيد الدعم عن بعض السلع الاستهلاكية وترشيد الإنفاق الجاري (الرواتب والمزايا) لتعزيز الوضع المالي وتفادي العجز في السنوات القادمة.
في الواقع ان المعالجات التي تساق فيها الكثير من الحلول غير الممكنة لأنها ستصطدم باعتبارات سياسية وصعبة التنفيذ على أرض الواقع.
وعلى هذا الأساس، يفترض أن تعمل الحكومة وجهازها التنفيذي بطريقة مختلفة عن الأمور النظرية، وأن تبتكر معالجات خارج المألوف، حتى لو تم الأخذ بنماذج السعودية والامارات وقطر.
وقد حققت الدولة اجمالي إيرادات بنحو 212 مليار دينار خلال السنوات المالية العشر الماضية، أنفقت منها فقط 14 مليار دينار على المشاريع الاستثمارية أو نحو 6.6% بينما استنزفت المصروفات الجارية نحو 121 مليار دينار من الايرادات أو نحو 57% الا أن الإنتاجية في تراجع مستمر.
والفائض المالي المتراكم كبير والقدرة المالية قوية ولا ديون سيادية تضغط على الميزانية العامة، بينما تجد استثمارات الدولة طريقها الى الاسواق المالية والعقارية العالمية والإنفاق الاستثماري المحلي الغائب الأكبر عن المشهد الاقتصادي ولا نأخذ العبر ونمتثل لما يجري في الدول الخليجية الاخرى من هجمة قوية على الاستثمار في الداخل وتطوير القطاعات الاقتصادية الصناعية منها والخدماتية والمشاريع العقارية الضخمة.
هيكل الميزانية
على الرغم من أن بعض الدول المتقدمة لاتزال سياساتها المالية منذ عام 2009 ترتكز على ترشيد الإنفاق لمواجهة العجز في الميزانية العامة وتفاديا لأي تخلف عن سداد الديون السيادية التي سجلت مستويات قياسية نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي، إلا أن الكويت، المتحررة من الديون السيادية، بحاجة ماسة إلى اعادة هيكلة الميزانية العامة للدولة بتنويع مصادر الايرادات وترشيد الإنفاق الجاري من رواتب ودعم السلع والخدمات العامة وكذلك اعــادة النظر في تنفيـذ خطة التنمية الاقتصادية وزيادة الإنفاق الرأسمالي ولكـــن بشكـل مدروس يخدم المصلحة العامة للدولة في مجال التنمية الاقتصادية وتطوير البنى التحتية والقطاعات الاقتصادية المنتجة وزيادة تنافسيتها مع الدول المجاورة.
ولعل القدرة المالية الكبيرة والفائض المالي الضخم الذي حققته الكويت في ميزانيتها العامة خلال السنوات الماضية يخولانها القدرة على ان ترتقي الى مراكز الدول المتقدمة اقتصاديا وماليا من خلال تطوير عدة قطاعات أساسية منها الرعاية الصحية والتعليم وتحديث وتطوير البنى التحتية، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لدعم القطاعات الاقتصادية الحقيقية والمنتجة، خاصة قطاعي الصناعة والخدمات، والتي من شأنها أن تعزز الوضع الاقتصادي للدولة بعيدا عن الاعتماد على القطاع النفطي.
وفعليا، إن تعدد وتنوع الايرادات العامة من شأنه أن يعزز الاستقرار المالي للدولة وبالتالي الحد من أي عجز مالي محتمل نتيجة تذبذب أسعار النفط المرتبطة بشكل أساسي بأداء الاقتصاد العالمي وعوامل العرض والطلب والتطورات الجيوسياسية.
وتعتمد الكويت بشكل رئيسي في تمويل ميزانيتها العامة على الإيرادات النفطية والتي تشكل نحو 95% من إجمالي الإيرادات، وبالتالي فإن الوضع المالي للكويت ممتاز وخصوصا بعد تماسك اسعار النفط فوق مستوى الـ 100 دولار للبرميل، ولكن هذا لا يكفي حيث ان الاختلال في مصادر الايرادات لايزال يشكل العامل الضاغط باستمرار على استقرار الوضع المالي للدولة.
التحدي الأكبر
للسياسة المالية العامة للدول تأثير مباشر على النمو الاقتصادي وتوزيع الدخل ورفع مستوى المعيشة، حيث من الطبيعي أن تكون جزءا أساسيا من النقاش السياسي والاقتصادي.
والتحدي الأكبر في الكويت هو الحفاظ على مستوى عال من الإيرادات وتنويعها بعيدا عن تقلبات اسعار النفط والاعتماد على إيرادات النفط وبالتالي إنفاقها بشكل فعال يكون ذات قيمة مضافة إلى الاقتصاد، بالإضافة إلى وضع سياسة مالية متوازنة تأخذ بعين الاعتبار عدم الاستقرار في الإيرادات النفطية.
وتهدف سياسة الإنفاق العام المتوازنة إلى تنمية القطاعات المنتجة وتطوير البنية التحتية لمواكبة التطور الاقتصادي في الدول المجاورة ودفع عجلة النمو الى الامام.
وتواجه الكويت تحديا كبيرا في تطبيق سياسة مالية غير تقليدية في ضوء الطلب المتزايد على تطوير البنى التحتية والمشاريع الاسكانية لتواكب النمو الاقتصادي.
وللعبور إلى اقتصاد متنوع ونمو اقتصادي مستدام يفترض تفعيل الرقابة على جدوى تلك المشروعات وتوزيعها على كافة القطاعات المنتجة.
وأثبتت الدراسات على بعض الدول الأوروبية والآسيوية أن الإنفاق الحكومي على التعليم والبنية التحتية يؤثر بشكل إيجابي على النمو الاقتصادي، في حين أن المستويات المرتفعة من الإنفاق العام على القطاعات غير المنتجة (كالإنفاق على دعم السلع والخدمات والرواتب) يؤثر سلبا على النمو الاقتصادي المستدام، أما الإنفاق على القطاعات المنتجة (المشاريع السكنية ـ الصحة ـ التعليم) فحتما يساهم في دفع عملية النمو قدما.
كما يعتبر الإنفاق على مشاريع البنى التحتية من العوامل الأساسية في تحسين وتعزيز مناخ الاستثمار لأي بلد وقد أثبتت الدراسات أن الزيادة في الإنفاق الرأسمالي تساهم في تحفيز النمو الاقتصادي.
من هنا تكمن أهمية تحسين وتطوير البنى التحتية وتوسعتها لتتلاءم مع متطلبات النمو والتقدم.
ماذا جنينا في 10 سنوات.. وكم صرفنا؟
بلغت الإيرادات العامة للكويت خلال السنوات العشر الماضية نحو 211 مليار دينار (نحو 745 مليار دولار) شكلت الايرادات النفطية منها حوالي 94% لتسجل اجمالي 200 مليار دينار (نحو 700 مليار دولار) بينما بلغت الايرادات غير النفطية نحو 13.6 مليار دينار فقط وبمعدل 1.36 مليار دينار لكل سنة.
استنفد الإنفاق الجاري خلال السنوات العشر الماضية ما يعادل 57% من اجمالي الايرادات المحصلة و90% من اجمالي المصروفات حيث أنفقت الدولة على الرواتب والخدمات العامة ودعم السلع الاستهلاكية اجمالي 121 مليار دينار (426 مليار دولار) بينما بلغ اجمالي إنفاقها الاستثماري 14 مليار دينار فقط (نحو 50 مليار دولار).
وبالتالي يكون اجمالي المصروفات قد بلغ 135 مليار دينار (475 مليار دولار) او ما يعادل 63.8% من اجمالي الايرادات المحصلة عن السنوات العشر الماضية.
ولم تسجل الميزانية العامة للدولة اي عجز سنوي خلال الفترة نفسها حيث بلغ اجمالي الفائض 76.7 مليار دينار (270 مليار دولار) تحول منه حوالي 30.7 مليار دينار الى حساب الأجيال القادمة ليسجل اجمالي الفائض النهائي للسنوات العشر الماضية حوالي 46 مليار دينار.
الأرقام جيدة على صعيد الايرادات، ولكنها بحاجة الى تنويع وإعادة هيكلة لتكون مستدامة على المدى الطويل وتقلص اعتماد الايرادات على اسعار النفط.
اما النفقات العامة للدولة، فاختلالها مزمن وأرقامها تنذر بعجز مالي قادم لا مفر منه اذا لم تفرمل الدولة الإنفاق الجاري لحساب الإنفاق الاستثماري.