عامان ونصف العام مرت على مفاوضات خروج «منفرد» للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد 4 عقود من العضوية. ورغم المناقشات السياسية الحادة منذ استفتاء يونيو 2016، فإن الكثير من الغموض لايزال يلف الآفاق الاقتصادية البريطانية وتأثير «بريكست» على قدرة بريطانيا الإنتاجية والتنافسية في وقت يجابه فيه الاقتصاد العالمي مخاطر مرتقبة.
وكانت بريطانيا والاتحاد الأوروبي اتفقا الأسبوع الماضي على وثيقة من 585 صفحة تختتم شروط رحيل بريطانيا، حيث من المفترض مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي رسميا، أول دولة تترك الاتحاد، منتصف ليل 29 مارس المقبل، وقد تتمدد حتى نهاية 2022، وذلك وفقا لما نقلته «BBC» وصحيفة الشرق الأوسط.
ضرورة التوافق
لكن يجب التوافق على اتفاق «بريكست» خلال الأسابيع المقبلة لترك مساحة كافية من الوقت أمام البرلمان الأوروبي والبرلمان البريطاني للتصديق عليه. وأيضا التحضير لما بعد الخروج، وخصوصا العلاقة المستقبلية الاقتصادية والتجارية بين بريطانيا والدول الـ ٢٧ في الاتحاد الأوروبي.
ومع أن الخبراء توقعوا بعد الاستفتاء مباشرة بأن اقتصاد المملكة سيعاني هبوطا فوريا في الإنتاج، يرى وزير الخزانة البريطاني أن مسودة اتفــاق بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي، هي أفضل حل متاح لحماية الاقتصاد والبدء في إعادة توحيد دولة مقسمة.
وأوضح ان هذه الصفقة هي طريقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بأقل تأثير سلبي على اقتصادنا. مضيفا: الشيء الوحيد الذي يعوق الاقتصاد في الوقت الحالي هو عدم اليقين بشأن علاقتنا مع الاتحاد الأوروبي. إذا غادرنا الاتحاد الأوروبي من دون صفقة، ليس لدي أدنى شك في أن العواقب على الاقتصاد ستكون خطيرة للغاية، ومدمرة للغاية وسلبية بالنسبة إلى الوظائف، ومن أجل الرخاء في المستقبل.
رفع الفائدة
من ناحيته، يقول عضو لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا مايكل سولدرز إن البنك سيحتاج على الأرجح الى رفع أسعار الفائدة بوتيرة أسرع مما يتوقع المستثمرون، إذا تمكنت بريطانيا من خروج سلس من الاتحاد الأوروبي. وأضاف، إن اتفاقا بشأن «بريكست» سيعزز اقتصاد بريطانيا، أو سيبرر على الأرجح المزيد من الزيادات في أسعار الفائدة.
وتشير تقديرات بنك إنجلترا المركزي الى أن البنوك البريطانية السبعة الكبرى (وفقا لاختبارات الضغوط) استعدت جيدا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما يرتبط بذلك من تأثيرات حادة على الاقتصاد والعملة، وهي ليست بحاجة إلى رؤوس أموال جديدة.
ومن المناصرين للاتفاق من يعتقد بأن بريطانيا يمكنها الاستفادة من المنافع الاقتصادية للسوق الموحدة من خلال ترتيبات التجارة الحرة، من دون تحمل أعباء سياسية أو موضوعات خلافية، مثل السياسات الزراعية أو تدخل المفوضية الأوروبية في الشؤون المحلية وأمور السيادة.
تضرر اقتصادي
تشير تقارير عدة الى أن اقتصاد المملكة سيتضرر على المديين المتوسط والبعيد. فلن تتوقف التجارة على سبيل المثال بين الطرفين، لكن ستصبح هناك شروط مختلفة لتداول السلع والخدمات، أي أن العلاقات الاقتصادية مستمرة كما هي، لكن بوتيرة مختلفة ستؤثر على ميزان المدفوعات البريطاني على المدى الطويل، كما ان معظم التوقعات التي تلت الاستفتاء وحتى الآن ما هي إلا توقعات قصيرة الأجل، لكن الوقائع تظهر، ما يلي:
1- يعاني الاقتصاد البريطاني الآن فعليا من تغيرات هيكلية ظهرت في كثير من المؤشرات، والتي تبرر تراجع نمو الإنتاجية، ونذكر منها تراجع صافي الاستثمار المباشر الأجنبي إلى 12.5 مليار إسترليني في 2016، مقارنة بنحو 50.8 مليارا عام 2015، بتراجع 75% وهو أدنى مستوى منذ بداية السجلات في عام 1997، وظل صافي الاستثمار الأجنبي مستقرا العام الماضي.
٢- يتوقع المعهد الوطني للأبحاث أنه بعد 10 أعوام، سيحدث ما يلي:
٭ سيكون الاقتصاد أقل بنسبة 4% بموجب خطة «بريكسيت» التي اتفقت عليها رئيسة الوزراء تيريزا ماي. وقسم تقرير المعهد الأثر الاقتصادي لصفقة الخروج البريطاني إلى: أولا، تغيرات في العلاقات التجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والبلدان الأخرى. وثانيا، التغيرات الناجمة من عدم اليقين والثقة الناتج عن الصفقة.
٭ ستنخفض الإيرادات الضريبية بين 18 و23 مليار إسترليني، وسيهبط الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 21%، كما سيتراجع إجمالي التجارة البريطانية الأوروبية بنسبة 46%، بينما سينخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 3%، وبقيمة 1000 إسترليني سنويا، وفقا لتقرير المعهد المعنون «التأثيرات الاقتصادية لصفقة (بريكسيت) المقترحة من الحكومة».
وتشير التقديرات السابقة إلى أن عدم اليقين قلل بالفعل من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة بنحو 2%، مقارنة بما هو عليه. ولا يستطيع الاقتصاديون تحديد تأثير الصفقة على عدم اليقين والثقة، حيث إن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي ليست له سابقة تاريخية للقياس عليها أو تــــحديد مدى الضــرر من ذلك.
٭ على الصعيد التجاري، فإن التأثير المتوقع على التجارة يعني أن اقتصاد بريطانيا سيكون أصغر قليلا، سيكون لبريطانيا سياسة تجارية مستقلة تمكنها من توقيع اتفاقات تجارية مع الدول عبر العالم، بما فيها الولايات المتحدة.
3- حسب تقرير حكومي، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدون اتفاق يؤدي إلى تراجع بنسبة 9.3% في الناتج المحلي الإجمالي على مدى 15 عاما.
4- يرى خبراء أن السياسة المالية ستستجيب لنمو اقتصادي أضعف على المدى القصير، مقارنة بسيناريو البقاء، خصوصا بما يسمى «المثبتات التلقائية» التي تتمثل في شكل مدفوعات الرعاية الاجتماعية وتعويض التأثيرات السلبية للبطالة، كنتيجة لاقتصاد أقل وسكان أصغر مقارنة بسيناريو البقاء.
5- سيتطلب الخروج البريطاني تغييرا في كيفية سعي المملكة المتحدة إلى هيكلة اقتصادها، والاستفادة من قوتها الداخلية كدولة كبيرة ومغلقة نسبيا بعد الانفصال.
وبالقياس، مرت المملكة المتحدة بعدد من الأزمات التي تطلبت تكاتف الدولة سياسيا واقتصاديا للوقوف على حلول عملية، منها أزمة الذهب عام 1931، وإنقاذ صندوق النقد الدولي لبريطانيا بقرض سريع عام 1976. لكن الأزمة الحالية، على العكس، تتطلب آليــــات وحلولا عميقــة لتجنب خسائر اقتصادية فادحة على المدى الطويل، لاسيما معالجة أسباب الإحباط الاقتصادي، والغضب الشعبوي، والهجرة.
معارضو الخروج
ومن المتوقع أن تنشر الحكومة سلسلة من تقييمات تأثير اتفاق «بريكسيت» قبل التصويت عليه المقرر في 11 ديسمبر الجاري في مجلس العموم (مجلس النواب). وتحتاج رئيسة الحكومة تيريزا ماي إلى موافقة البرلـــمان على اتفـاق الخروج.
لكن منتقدين من كل الأطراف يقولون إنهم سيعارضونه، ما يجعل فرص فوز الحكومة بتصويت في البرلمان تبدو هزيلة في الوقت الحالي. ورغم أنها أطلقت حملة لحشد التأييد الشعبي للاتفاق عبر زيارات للأقاليم التي تشكل المملكة المتحدة، فإنها تواجه معارضة على المستــويين الداخلي والخارجي.
وعلى المستوى الخارجي، دخل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الخط، واصفا اتفاق الطلاق بأنه قد يضر بالتجارة بين واشنطن ولندن. إنه اتفاق جيد جدا للاتحاد الأوروبي، لكن علينا أن نرى بشكل جدي ما إذا كان سيسمح للمملكة المتحدة بالقيام بالتجارة أولا.
أسباب رفض الاتفاق
على المستوى الداخلي، فالرافضون للاتفاق هم فرق مختلفة، يركزون على عدة نقاط، هي:
٭ شروط الاتفاق أسوأ من البقاء في الاتحاد، ويطالبون بتنظيم استفتاء آخر، حيث تشير رئيسة حكومة سكوتلندا، التي انتقدت الاتفاق، الى ان اتفاق ماي سيخفض دخل السكوتلنديين بمقدار 1610 جنيهات استرلينية (2050 دولارا) للفرد سنويا بحلول عام 2030، مقارنة بسيناريو بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
٭ التحفظ على تفاصيل الاتفاق، فهو لا يرتب إلا قواعد الانفصال وتكلفته، وكان من الواجب التفاوض على بنوده مع بنود التعاون في المستقبل بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. فهناك بعض الموضوعات السياسية والاقتصادية التي تخص بريطانيا مع دولة بعينها أكثر من غيرها من دول الاتحاد، قد تثار مستقبلا، مثلا: ملف الحدود مع إيرلندا، ملف صيد الأسماك مع فرنسا، ملف الوضع الخاص لجبل طارق مع إسبانيا.
وفيما تبرز مطالبات بتأجيل موعد الانفصال الفعلي لشهرين أو 3 أشهر، ستخـــوض تيريــزا ماي أول مناظــرة تلفزيونيــــة لها على الهواء مباشـــرة مع زعيم حزب العمال المعارض في التاسع مــــن ديسمبر الجاري، أي قبل يومين من تصويت أعضاء البرلمان على ما إذا كانوا سيدعمون اتفاق ماي في واحدة من أهم اللحظات في تاريخ البرلمان منذ عقود.
ما دور قضية «الحدود» مع إيرلندا؟
٭ تقول صحيفة نيويورك تايمز إن ما يمثل «كعب أخيل» لاتفاق البريكست هو الحدود مع إيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي، وإيرلندا الشمالية، وهي جزء من بريطانيا. فعلى مدار سنوات، كانت الحدود تشهد وجودا عسكريا بسبب العنف الطائفي الذي أدى إلى مقتل أكثر من 3500 شخص.
لكن بعد توقيع اتفاق الجمعة الطيبة عام 1998 تم السماح بالتجارة الحرة. وكان هذا ممكنا لأن إيرلندا وبريطانيا عضوتان بالاتحاد الأوروبي. لكن بعد تصويت بريطانيا بالخروج، أصبحت الحدود مشكلة مرة أخرى.
واقترحت ماي في مسودة اتفاقها إبقاء إيرلندا الشمالي وباقي المملكة المتحدة في اتحاد الجمارك الأوروبية حتى تصبح هناك اتفاقية تجارية لا تتطلب قيودا على الحدود الإيرلندية، لكن هذا يعني أن بريطانيا ستخضع أيضا لبعض القواعد والتنظيمات الأوروبية.
باختصار، وفي حين أن بريطانيا ستدفع فاتورة انفصال 50 مليار دولار، إلا أنها ستظل محاطة بعدد من القواعد الأوروبية دون أن يكون لها رأى في صياغتها.
ما الخلاف الحالي؟
٭ الحملة الداعية للخروج وعدت باستعادة السيطرة على بريطانيا من أوروبا دون أن توضح كيفية فعل ذلك. وبعد الاستفتاء، استقال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وحلت محله تريزا ماي التي تولت مسألة التفاوض على اتفاق للبريكست مع الاتحاد الأوروبي. وكان أكبر تحدٍ يواجهها هو بناء الدعم في الداخل.
لكن الانقسام زاد، فأحد فصائل البريكست يطالب بانفصال تام حتى تستعيد بريطانيا سيادتها على التجارة والهجرة.
بينما فضل فريق أخرى الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع الكتلة الأوروبية حتى لو كان هذا يعني مشاركة بعض السيطرة مع الاتحاد الأوروبي.
وفى اقتراب موعد الرحيل المقرر لبريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في 29 مارس، كانت ماي تحاول التوسط من أجل تجنب انسحاب فوضوي.
هكذا سيتضرر الاقتصاد البريطاني في الـ 10 سنوات المقبلة
٭ سيكون الاقتصاد أقل بنسبة 4% بموجب خطة «بريكست» المنفق عليها.
٭ ستنخفض الإيرادات الضريبية بين 18 و23 مليار إسترليني.
٭ سيهبط الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 21%.
٭ سيتراجع إجمالي التجارة البريطانية- الأوروبية بنسبة 46%.
٭ سينخفض الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 3%، وبقيمة 1000إسترليني سنويا.
٭ تراجع فعلي للناتج المحلي الإجمالي بالمملكة بنحو 2%.
٭ الخروج دون اتفاق سيهبط بالناتج المحلي الإجمالي 9.3% على مدى 15 عاما.