في أوائل السبعينيات من القرن التاسع عشر شهدت أسعار العقارات في فيينا وبرلين وباريس ارتفاعا كبيرا بفضل طفرة في حركة البناء روجت لها الحكومات بتيسير الائتمان بضمان المساكن نفسها التي لم تكن قد بنيت بعد أو لم يستكمل بناؤها.
ثم حدث الانهيار الذي يضاهي ما حدث في السنوات الأخيرة وربما يمثل دروسا للأطراف المعنية في أزمة منطقة اليورو مع الدروس الأخرى المستقاة من التاريخ الأميركي، فمع ارتفاع أسعار العقارات انقلب حال أوروبا رأسا على عقب.
وبفضل أجهزة نقل الحبوب من روافع وسيور وبواخر ضخمة استطاع المزارعون الأميركيون تصدير منتجات الغرب الأوسط ذي الأراضي الخصبة فطرحوا للتصدير كميات ضخمة من القمح تلاها تصدير الأغذية المصنعة.
ولم يستطع منتجو الحبوب في روسيا ووسط أوروبا مجاراة الأميركيين فيما أصبح يعرف بالغزو التجاري الأميركي.
وحدث الانهيار في وسط أوروبا في مايو 1873 اذ أدى انخفاض تكلفة الانتاج لدى القوة العظمي الصناعية الجديدة الى فضح عدم واقعية افتراضات النمو القديمة، وانهارت بنوك في القارة الاوروبية ما حدا بالبنوك البريطانية الى أن تمتنع عن تقديم القروض لعدم تأكدها ممن تأثر وضعه المالي بمشكلة الديون العقارية، وسجلت اسعار الفائدة بين البنوك ارتفاعا هائلا.
وسرعان ما امتدت الأزمة المصرفية الى الولايات المتحدة وكان من بين أول ضحاياها شركات السكك الحديدية التي أثقلت كاهلها أدوات مالية معقدة كانت تقوم على وعد المستثمرين بعائد ثابت.
يقول ستيفن روس أستاذ الاقتصاد المالي بكلية سلون للادارة بجامعة ماساتشوستس للتكونولوجيا انه بعد 135 عاما من هذه الأحداث التي رواها المؤرخ الأميركي سكوت رينولدز نلسون ظهرت أوجه شبه شديد بالمشاكل المصرفية والمالية المزمنة التي نشاهدها اليوم.
ويضيف «باحلال اسيا محل أميركا والغرب محل أوروبا يصبح لدينا وصف لما حدث في الازمة الحالية فالقوى الاقتصادية الجديدة المنتجة في الشرق أصبحت تمول الغرب وأدى هذا الى هوجة بناء المساكن والاستهلاك».
وقال روس في محاضرة ألقاها في الاونة الاخيرة بكلية كاس لادارة الاعمال في لندن «على عكس ما حدث عام 1873 فان المؤسسات المالية والادوات المالية الجديدة سهلت ذلك كما لعب دور الحكومة في حفز نمو الاسكان ليصبح في متناول اليد دورا رئيسيا في الأزمة».
وخلص الى أن الأزمات سمة من الصلة التي تربط السياسة بالمال اليوم مثلما كانت في أواخر القرن التاسع عشر، وهذا يسهم بدوره في تفسير سبب الحرص على استخلاص العبر من التاريخ مع دخول المشكلة الحالية عامها السادس.
والى جانب الانهيار الذي حدث في 1873 يرسم المؤرخ الأميركي نلسون صورة للكوارث المالية الأميركية في الأعوام 1792 و1819 و1837 و1857 و1893 و1929 وانتهت كلها الى تساؤل الاوروبيين عما اذا كان الأميركيون سيفون بوعودهم المالية أم ان الشعب الأميركي يعاني من ارهاق شديد، ومن هنا جاءت تسمية كتاب نلسون «شعب من المرهقين، التاريخ غير المألوف للكوارث المالية في أميركا».
وكان ابتكار الأدوات المالية المعقدة آنذاك مثلما هو الآن سمة من السمات المألوفة عندما ينقلب الحال من الازدهار الى الركود.
في كل من الحالتين مثلما حدث في حالة سندات السكك الحديدية التي كانت المراوغة سمة أساسية فيها أقنع الوسطاء المالية انفسهم ان الأدوات التي ابتكروها متطورة بما يك في لحمايتهم من مخاطر العجز عن السداد.
وكتب نلسون أستاذ التاريخ بكلية وليم آند ماري يقول «وفي كل من الحالتين جعلت السلسلة المعقدة للمؤسسات التي تربط المقترضين بالمقرضين قدرة المقرضين على التمييز بين القروض الجيدة والسيئة مستحيلا».
وفي كتابه «الكساد الكبير الاول في أميركا، الازمة الاقتصادية والاضطراب السياسي بعد ذعر 1837» يصف الاسدير روبرتس الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة سافولك في بوسطن كيف أدى انفجار فقاعة العقارات الى أزمة مصرفية أدت بدورها الى عجز ثلث الولايات الأميركية عن سداد ديونها الخارجية بحلول عام 1842.
ولا حاجة لبذل الجهد لوصف أوجه الشبه مع أزمة منطقة اليورو، فما عليك سوى أن تقرأ ما حدث لليونان لمعرفة ما حدث مع ولاية ميسيسيبي التي كانت من أوائل المتخلفين عن السداد.
وكان عمر الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الوقت 60 عاما تقريبا وهو عمر الاتحاد الاوروبي الآن وهو ما يضفي بعدا جديدا على استجابة الدول لازمة الديون من خلال السياسات بعيدة الاثر على حد قول تشارلز روبرتسون الاقتصادي لدى رينيسانس كابيتال في لندن. وتبنت ست ولايات تخلفت عن السداد قيودا دستورية على الديون بينما استحدثت ثماني ولايات أخرى قيودا على الاقتراض في حملة ترددت أصداؤها بعد 170 عاما من خلال ما اتفق عليه أعضاء منطقة اليورو بايعاز من ألمانيا.
ومع استعادة المستثمرين للثقة ارتفعت أسعار سندات بنسلفانيا وانديانا الى المثلين فيما بين عامي 1842 و1847، وسيتمنى حملة سندات الدين اليونانية أن يعيد التاريخ نفسه.
وفي وجه اخر من أوجه الشبه مع أوروبا اليوم ساء حال الحياة السياسية في أميركا اذ راح الساسة الشعبويون يضيقون الخناق على البنوك والمستثمرين.
ولكن مع تحقق الانتعاش العالمي عام 1845 استقر الاقتصاد الأميركي والمناخ السياسي، بيد أن روبرتسون يستخلص درسا أكثر قتامة من كتاب روبرتس وهو أن الصدمات الاقتصادية في الكساد الكبير الاول اضعفت أواصر الروابط التي توطدت خلال حرب الاستقلال عن بريطانيا قبل 60 عاما مما مهد الطريق للحرب الاهلية الأميركية بين عامي 1861 و1865.
وفضلت الولايات الأميركية الجنوبية التجارة الحرة مع بريطانيا بينما كانت الولايات الشمالية تريد رسوما وضرائب لدعم القدرات الصناعية.
ويقول روبرتسون ان أوروبا أيضا تواجه انقساما شديدا بين الشمال والجنوب، وقال في تقرير «الكتلة الاساسية حول ألمانيا هي مركز قوة للتصنيع والتصدير بديون منخفضة ومدخرات مرتفعة مع ميل للانكماش من أجل حماية المدخرات، ويمثل جانب كبير من الجنوب مجموعة من الدول ذات معدلات ادخار منخفضة ومعدلات اقتراض مرتفعة مع تفضيل للتضخم لحل أعباء ديونها». وأضاف أن أوروبا لن تنزلق الى حرب أهلية لكن الوشائج التي تربط منطقة اليورو ضعيفة مع اختلافات ثقافية ولغوية عميقة وقابلية محدودة لانتقال الايدي العاملة».
ويخلص روبرتسون الى أن «فض الاتحاد النقدي أكثر اقناعا لان الدعم الشعبي الرئيسي لاتحاد منطقة اليورو ليس قائما على أسس عاطفية أو مشاعر وطنية أو له جذور في مخاوف من مخاطر خارجية، بل هو في الاساس اقتصادي».
وربما يشير تكرر الازمات الى أن الاسواق والجهات التنظيمية عاجزة عن التعلم من الأخطاء السابقة فالأزمة الأخيرة تفجرت خلال أقل من عشر سنوات من أزمة شركات الانترنت ومن الازمة المالية الاسيوية عامي 1997 و1998.
ويقول روس «أخطر مخاوفي هي أنه مع كل هذا الحديث عن الاصلاح فاننا لم نفعل شيئا حقا يمكننا بكل ثقة أن نقول انه سيمنع حدوث أزمة ثانية أو يقلل من احتمالاتها».
وفي الواقع فان روس سلم بأن عملية صنع السياسات الان أصبحت أفضل حالا مما كان عليه الوضع في القرن السابق.
فعلى سبيل المثال لم تعد الحكومات تلجأ لاغلاق البنوك عند الأزمات مثلما كانت تفعل رغم ما صاحب ذلك من آثار كارثية خلال الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين، لكنه يخلص الى أن الدروس المستفادة من دراسة التاريخ كثيرة، فالمشاكل المالية ستظل تتعاقب مثلما يتعاقب الليل والنهار.
ويقول «من الصعب على الناس أن يصدقوا أن الازمات صفة لازمة للنظام السياسي الاقتصادي بل وأصعب عليهم أن يصدقوا ان الازمات والانهيارات ستظل دوما سمة من سمات النظم السياسية الاقتصادية».