عطاءات سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد (رحمه الله) أكبر من ان تحصى على اختلاف مجالاتها وتنوع مضامينها ومنها الركن الاقتصادي الذي أولاه سمو الأمير الراحل اهتماما أساسيا، فكان رحمه الله احد اهم بناة الاقتصاد الكويتي منذ انطلاقته الأولى في بداية الخمسينيات من القرن الماضي عندما ارتبط اسمه بالنفط عصب الاقتصاد الكويتي وعين حينها مسؤولا عن مدينة الأحمدي، ومنها توالت انجازاته الاقتصادية بإنشاء سلسلة من المؤسسات الاقتصادية وأخرى علمية واجتماعية لها طابع اقتصادي في محاولة جادة ومضنية لتنويع مصادر الدخل والارتقاء بالكويت الى مصاف الدول المتقدمة.
بل ان مبادراته العديدة ـ رحمه الله ـ عززت دور الكويت اقليميا وعربيا ودوليا وكانت لها جذورها الاقتصادية سواء بانشاء الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية او باطلاق مبادرة انشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي عكست رؤيته المستقبلية الثاقبة في محاولاته العديدة لإيجاد تكتلات اقتصادية كي تنعم المنطقة بالاستقرار، هذا عدا مبادراته غير المسبوقة بمساهمة الدولة في انشاء شركات عملاقة لاستثمار الموارد الطبيعية والبشرية التي تنعم بها الكويت سواء كانت شركات بترولية او صناعية او مالية او استثمارية او غيرها.
نقطة التحول
كان اكتشاف النفط وبدء تصديره في مطلع الخمسينيات نقطة تحول مهمة في تحديث وتبديل نمط الحياة الاقتصادية في الكويت، فقد بدأت الفوائض المالية بالتزايد مع تجاوز ايرادات النفط للانفاق العام مما دفع سموه رحمه الله الى تبني مبادرات اقتصادية لاستثمار تلك الفوائض وتنميتها للصالح العام حيث اشرفت على تلك الجهود آنذاك ادارة المالية العامة في الحكومة والتي كان يرأسها سموه رحمه الله ومن خلال مكتب الاستثمار الكويتي في لندن.
ومن موقعه هذا اتخذ سموه رحمه الله في عام 1960 عدة خطوات لتنظيم مالية الدولة كان من ضمنها انشاء الاحتياطي العام الذي يتم تمويله من فائض الميزانية واشتمل الاحتياطي العام حينها على جميع استثمارات الدولة سواء داخل البلاد او خارجها.
الاحتياطي العام
في اطار الخطوات التي اتخذتها ادارة المالية العامة لتنظيم الأوضاع المالية للدولة صدر المرسوم بالقانون رقم 1/1960 المتعلق باقرار اعداد الميزانية العامة او اسلوب تنفيذها، وقد اعلن هذا القانون انشاء الاحتياطي العام ووضع التشريع اللازم لتمويله من فائض الميزانية، وأناط مسؤولية ادارته بادارة المالية العامة او بوزارة المالية حاليا وشمل الاحتياطي العام في ذلك الحين جميع استثمارات الدولة والتي تضمنت فيما بعد المشاركة في العديد من المشاريع التنموية والاقتصادية والاجتماعية منها على سبيل المثال بنك التسليف والادخار والصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية وعشرات المشاريع المحلية الأخرى هذا بالاضافة الى جميع الاستثمارات الخارجية التي تملكها الدولة.
الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية
الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية يعتبر انجازا اقتصاديا آخر من انجازات سموه رحمه الله في المجال الاقتصادي بل يعتبر من اول انجازاته على طريق استثمار الامكانيات الكويتية على جميع الاصعدة الاقليمية والدولية والتي اشاد بها القاصي قبل الداني حتى اضحت سفارة كويتية تقدم مساعداتهــا المالية لـ 119 دولة.
ويعد الصندوق الكويتي للتنمية من اقدم المؤسسات الاقراضية التي تعمل في مجال منح المساعدات وتأكيد التعاون العربي والدولي حيث انشئ منذ عام 1961 اي بعد اشهر قليلة من استقلال الكويت، وظل حتى يوليو 1974 يقصر عملياته على البلدان العربية ثم اتسع نطاق نشاطاته الاقراضية ليشمل معظم الدول النامية التي اصبحت تستخدم مساعدات الصندوق وقروضه في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ديوان المحاسبة
تنفيذا لنص المادة 151 من الدستور صدر القانون رقم 30 لسنة 1964 بانشاء ديوان المحاسبة بالكويت ونصت المادة الأولى منه على انه تنشأ هيئة مستقلة للمراقبة المالية تسمى ديوان المحاسبة وتلحق بمجلس الأمة.
كما تضمن القانون رقم 30 لسنة 1964 انشاء ديوان المحاسبة من الاحكام ما يحقق له الاستقلال الوظيفي والعضوي والمالي، كما احاطته بالضمانات التي تكفل له العمل بحرية واطمئنان وتمكنه من ممارسة اعمال الرقابة دون معوقات.
اما الغرض من انشاء هذا الديوان وبواعثه فأوضحته المادة الثانية من قانون انشائه حيث نصت على انه يهدف اساسا الى تحقيق رقابة فعالة على الاموال العامة وذلك عن طريق ممارسة الاختصاصات المخولة له بمقتضى القانون وعلى الوجه المبين فيه.
ولهذا كان الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد رحمه الله يحرص على متابعة كل ما ينجزه ديوان المحاسبة في بداية تأسيسه بنفسه وبشكل حازم ويطالب بتدقيق الحسابات وخاصة ما يتعلق بالصفقات الاستثمارية في الخارج رغم ان الكويت كانت في بداية عهدها بالاستثمارات حيث كان يهتم بأن تمارس الجهات الرقابية دورها كما حددها لها الدستور ولم يخل بهذا الشرط طوال فترة تقلده منصبه كوزير للمالية.
وكانت تتم تحت اشرافه رحمه الله جميع الاستثمارات بالتعاون مع اجهزة الرقابة والمحاسبة والتدقيق، وكان يقول ان جهاز الاستثمارات له كامل الحرية في اختيار العمل ولكن ذلك لا يمنع من ضرورة المتابعة وممارسة الرقابة على جميع العمليات من الأجهزة المختصة، وبذلك كان يضرب لهم المثل في طهارة اليد والنزاهة ثم الدقة والحرص على المال العام وكان يختار الكفاءات الوطنية بدقة شديدة للعمل معه في المجالات الاقتصادية.
بنك الكويت المركزي
وقد أولى سموه رحمه الله اهتماما ملحوظا وحرصا غير مسبوق على ان تقوم الادارة الاقتصادية للدولة بشكل عام والجانب المالي منه على اسس سليمة راسخة لكي تكفل له التطور والنمو، فقد اسهم وبشكل فاعل في ابراز اهمية بنك مركزي يكون من بين مهامه العديدة وضع نظام نقدي شامل يدعم انضمام الكويت الى اتفاقيتي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير، وصدر القانون رقم 32 لسنة 68 في شأن النقد وبنك الكويت المركزي وتنظيم المهنة المصرفية.
وقد كان انشاء بنك مركزي في الكويت احد تطلعات سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الاحمد رحمه الله الاقتصادية منذ ان كان وزيرا للمالية لكي تعمل هذه الجهة على تأمين ثبات النقد الكويتي وعلى توجيه سياسة الائتمان بما يساعد على التقدم الاقتصادي والاجتماعي وزيادة الدخل القومي ومراقبة الجهاز المصرفي في الكويت اضافة الى القيام بوظيفة بنك الحكومة وتقديم المشورة المالية لها.
وقد اكتمل حلم سموه رحمه الله في ابريل 1977 بافتتاح المقر الجديد لبنك الكويت المركزي لكي يتمكن هذا الجهاز المالي من الحفاظ على زخم الاقتصاد الكويتي وتجنيبه قدر الامكان اي تأثيرات سلبية ناتجة عما تشهده الساحة العالمية من اضطرابات مالية وتقلبات اقتصادية الى جانب الاهتمام بالسياسة النقدية والمالية لتحقيق الأهداف الاقتصادية للدولة.
كما أولى صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد رحمه الله اهتماما ملحوظا بالنقد الكويتي اثر توليه مقاليد الحكم حيث طرح بنك الكويت المركزي في 30 فبراير عام 1980 اوراقا نقدية جديدة للتداول كما اصدر البنك مطلع فبراير 1982 قرارا بشأن سحب اوراق النقد المتداولة التي تحمل صورتي المغفور لهما بإذن الله الشيخ عبدالله السالم والشيخ صباح السالم طيب الله ثراهما.
معهد الكويت للأبحاث العلمية
انشئ معهد الكويت للأبحاث العلمية برغبة اميرية سامية كنتيجة حتمية وولادة طبيعية لافكار سموه المتطورة والموجهة نحو دعم الاقتصاد الوطني بشتى السبل العلمية والعملية المتاحة وهو ما دفع نحو انشاء دائرة الاقتصاد التقني في المعهد والتي من أهدافها تعزيز المهارات والقدرات في القضايا المتعلقة بتخطيط الاقتصاد الوطني وتطوير الموارد وأبحاث العمليات.
وصدر مرسوم اميري بانشاء المعهد في يوليو من عام 1973 كمحاولة علمية لايجاد الحلول لمختلف المشاكل والمعضلات التي قد يتعرض لها المجتمع الكويتي في سعيه نحو التطور والرقي في شتى القطاعات الاقتصادية والعلمية والاجتماعية وغيرها ومن ثم رفع التصورات والبدائل الى صانعي القرار السياسي.
ومن ضمن الأغراض التي انشئ من اجلها المعهد النهوض بالبحوث العلمية والتطبيقية لاسيما فيما يتعلق منها بالصناعة والطاقة وموارد الثروة الطبيعية والمواد الغذائية وسائر المقومات الأساسية التي تساعد الاقتصاد القومي على النمو.
احتياطي الأجيال القادمة
ولاشك ان حكمة القيادة الكويتية تجلت في السبعينيات حين قامت بخطوة واسعة تمثلت في تنظيم الأوضاع الاستثمارية في اطار رؤية مستقبلية شاملة.
وكانت الخطوة المهمة التالية بعد قانون الاحتياطي العام هي انشاء احتياطي الاجيال القادمة، وقد جاءت النظرة الثاقبة لصاحب السمو الأمير رحمه الله لتنظيم الأوضاع الاستثمارية باصدار القانون رقم 106 لسنة 1976 القاضي بتكوين احتياطي الاجيال القادمة، وقد نظمت عملية استثماره في المحافظ الاستثمارية العالمية من الاسهم والسندات والودائع والمشاريع الاقتصادية المختلفة باشراف الخبراء الاقتصاديين سواء داخل الدولة او في المؤسسات الاستثمارية العالمية التي عهد اليها باستثمار اصول احتياطي الاجيال القادمة.
وقد برزت اهمية هذا الاحتياطي وبشكل واضح في الدور الرئيسي الذي لعبه في تأمين احتياجات البلاد اثر الاحتلال العراقي الآثم في اغسطس 1990 اذ كان الممول الاول في تسديد نفقات التحرير واعادة اعمار البلاد، فكان ذلك الاحتياطي خير معين للكويت على مواجهة محنتها.
المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية
تعتبر المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية احدى اهم الافكار الاقتصادية التي تفتق عنها الفكر الاقتصادي لسمو الأمير الراحل الشيخ جابر الاحمد لتوفير العيش الكريم للاسرة الكويتية وعكست العقلية الاقتصادية التي يتميز بها سموه ووجدت الفكرة طريقها الى التنفيذ بموجب قانون التأمينات الاجتماعية الصادر بالأمر الأميري بالقانون رقم 61 لسنة 1976 كمؤسسة عامة ذات ميزانية مستقلة تكون لها الشخصية المعنوية وتخضع لاشراف وزير المالية ويرأس مجلس ادارتها كذلك. واذا كانت الكويت تطبق نظام المعاشات التقاعدية منذ منتصف الخمسينيات وكان يستفيد منه بعض المواطنين في المؤسسات الحكومية فانه في أواخر عام 1976 وبإقرار القانون الجديد بدئ بتأمين الشيخوخة والعجز والمرض والوفاة للعاملين المدنيين في القطاع الحكومي وفي القطاعين الأهلي والنفطي وتأمين اصابات العمل. ويتميز نظام التأمينات الاجتماعية في الكويت بالشمول والوحدة وسخاء المزايات التأمينية ويعتبر المعاش التقاعدي من ابرز الحقوق التي كفلها قانون التأمينات الاجتماعية للمؤمن عليهم بل يمكن القول ان المعاش التقاعدي هو الهدف الاول للتأمينات الاجتماعية.
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي
وكانت امكانيات سموه رحمه الله ومبادراته الاقتصادية لا تعرف الحدود، فما ان يتم تنفيذ فكرة من افكاره او مبادرة من مبادراته العديدة حتى يبدأ بطرح أخرى.
ونتيجة لاهتمامه المتزايد بالاقتصاد ودوره في التنمية البشرية الشاملة فقد أولى الأمير الراحل رحمه الله اهمية للجانب العلمي لهذا القطاع الحيوي فتم انشاء مؤسسة الكويت للتقدم العلمي كمؤسسة خاصة ذات نفع عام بموجب مرسوم أميري تتلقى الدعم المادي من الشركات المساهمة الكويتية بمقدار 5% من صافي الارباح السنوية لهذه الشركات تم خفضه الى 2.5% قبل بضع سنوات.
وقد أسهمت المؤسسة في تدعيم البحوث العلمية بمختلف فروعها وتشجيع العلماء والباحثين في الكويت والبلاد العربية الاخرى والاسلامية حيث تقوم المؤسسة بتخصيص جوائز في مختلف العلوم وذلك في برامجها السنوية.
الهيئة العامة للاستثمار
كان لابد للتزايد المتنامي في حجم الأموال المخصصة للاستثمار والتوسع في دائرة توظيف الأموال من ان يترجم بخطوة نوعية تتناسب مع حجم وسرعة واضطراد هذا التزايد، وتمثلت هذه الخطوة في انشاء الهيئة العامة للاستثمار لتحل محل وزارة المالية في ادارة وتنمية احتياطات الدولة المالية، حيث صدر القانون رقم 47 لسنة 1982 الذي نص على انشاء الهيئة العامة للاستثمار كمؤسسة ذات شخصية اعتبارية مستقلة تلحق بوزير المالية وتتولى باسم حكومة الكويت ولحسابها ادارة اموال الاحتياطي العام للدولة والأموال المخصصة لاحتياطي الأجيال القادمة وغير ذلك من الأموال التي يعهد بها وزير المالية الى الهيئة لادارتها وتوظيفها.
واليوم تعد الاستثمارات الكويتية في الخارج واحدة من أهم مصادر الدخل القومي للبلاد بعد الصناعة النفطية مؤكدة بذلك حجم نجاح الانشطة المالية والتوظيف الاستثماري للاحتياطي العام للدولة واحتياطي الأجيال القادمة، وأضحت هذه الاستثمارات خير برهان على نفاذ بصيرة القيادة الكويتية والتي وضعت الكويت بين الدول الرائدة في مجال التخطيط والاستثمار المالي، وذلك بالرغم من المصاعب التي تعرضت لها البلاد وأبرزها الاحتلال العراقي الآثم.
وتنفيذا لسياسة الدولة والتوجيهات الرسمية تساهم الهيئة بشكل فعال في دعم مشاريع التنمية في بلدان العالم الثالث بوجه خاص ولاسيما المشاريع الحيوية التي تساهم في تطوير البنية الاقتصادية في هذه البلدان وذلك انسجاما مع خطط وبرامج التنمية التي يضعها البنك الدولي واجهزة الامم المتحدة وضمن اتفاقيات رسمية بين الكويت وتلك الدول.
واذا كانت المبادرات الاقتصادية العديدة التي اطلقها سمو الامير الراحل رحمه الله على المستوى المحلي جاءت لترسيخ اسس الدولة العصرية من خلال خلق دولة المؤسسات وتوفير العيش الكريم للمواطن الكويتي فإن مبادراته (رحمه الله) تخطت الحدود المحلية الى المستويين الاقليمي والدولي لتوطيد دعائم الأمن والاستقرار في ربوع الكرة الأرضية ومنها مبادرته الشهيرة بانشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية وهو ما يشير الى فكره الاستراتيجي ونظرته المستقبلية لتعزيز الوجود الخليجي في المحافل الدولية على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وقد نشأت فكرة قيام التجمع الخليجي في عقل وضمير الأمير الراحل رحمه الله منذ ان كان وزيرا للمالية لتوسيع وتوحيد مجالات التعاون الاقتصادي وتيسير ممارسة الأنشطة الاقتصادية بالنسبة للمواطنين الخليجيين ثم فاتح اخوانه قادة الخليج بما تراه الكويت من تصور لمستقبل الخليج اقتصاديا فحظيت تلك الرؤية بالموافقة باجماع الآراء.
وبذلت الكويت ممثلة بأميرها رحمه الله جهودا حثيثة وتحركات مكثفة سعيا وراء تحقيق الوحدة بين دول مجلس التعاون الخليجي الست وتحقيق متطلبات وآمال شعوبها، وكثيرا ما كان يشدد في لقاءاته مع اخوانه القادة الخليجيين وخلال خطبه على الاهتمام بالاقتصاد وما يحققه من بناء لمستقبل الانسانية والنهوض بالشعوب الى أرقى المراتب في سبيل التخلص من مخلفات الجهل والفقر والتشتت مذكرا بأن الأمن والاقتصاد هما الدرع الحصينة لدول مجلس التعاون الخليجي.
أما زيارات سموه الخارجية رحمه الله فلم تكن تخلو من اهداف اقتصادية فالغالبية العظمى من هذه الزيارات سواء للدول العربية والاسلامية او للدول النامية الأخرى كانت تعقد خلالها الاتفاقيات الاقتصادية الى جانب الاتفاقيات الثقافية والسياسية لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربية والاسلامية ولتعزيز التنمية الاقتصادية الشاملة خاصة للدول التي تعاني من الفقر والكوارث الطبيعية.
كما ان هذه الزيارات لم تخل من لفتاته الكريمة بتبرعه بمنح مالية الى المؤسسات ذات الطابع الخيري والتي من شأنها دعم اقتصادات دولها لاعانتها على الانخراط في المجتمع الدولي وتعبيرا انسانيا من لدن سموه رحمه الله عن تقديره لمواقف هذه الدول المساندة لقضايا الكويت المصيرية والعادلة.
كما كان سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد رحمه الله في طليعة قادة دول العالم المطالبين من منصة الأمم المتحدة عام 1988 باسقاط الديون المتراكمة على الدول النامية التي عانت كثيرا من ازمات اقتصادية خانقة، وينبع هذا الاهتمام من اهمية الأمن الغذائي والأمن الاقتصادي لشعوب الدول النامية وهو ما دفع منظمة الاغذية والزراعة الدولية (الفاو) لزيادة الاهتمام بمثل هذه الجوانب من خلال اصدار القرارات والتوصيات اللازمة لتلبية احتياجات الانسانية من الغذاء السليم.
وهو ما يؤكد ان سموه رحمه الله لم يكن يحمل على كاهله هموم الشعب الكويتي فقط، وانما حمل هموم شعوب الدول النامية والمستضعفة ايضا، ولم يكن هذا بغريب على تطلعات سموه لنشر الخير في ربوع الارض فهو من اصدر قراره في بداية عهد الكويت بالاستقلال بانشاء الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية لدفع عجلة النمو والتطور في الدول العربية والاسلامية.
وفي خطابه الشهير والذي ألقاه على منصة الامم المتحدة في اواخر الثمانينيات قال سموه رحمه الله في العلاقات الاقتصادية ما بين الشمال والجنوب: «وأبرز ما في هذه العلاقة الديون وفوائدها المتزايدة وقد أصبحت بصورتها الحالية عقبة في سبيل التنمية وقيدا عليها ووسيلة ضغط على الجنوب للحصول على انتاجه من المواد الأولية بأسعار متدنية وبيع انتاج الشمال من مصنوعات وحبوب غذائية بأسعار مستمرة في ارتفاعها مما تزداد الفجوة اتساعا بين الشمال والجنوب».
وأضاف سموه رحمه الله: «أود في هذه المناسبة ان أقترح مشروعا من ثلاثة بنود:
أولا: ان تدعو الدول الدائنة الى عقد اجتماع فيما بينها لبحث الغاء الفوائد على ديونها المستحقة لدى الدول المدينة، مع اسقاط جزء من اصول الديون المستحقة لدى الدول الأشد فقرا.
وان الكويت كدولة دائنة على استعداد لحضور هذا الاجتماع والالتزام بما يصدر عنه من قرارات لأن ذلك في اعتقادنا افضل بكثير من ترك الأمر لمطالبات الدول المدينة من ناحية، ولتباين مواقف الدول الدائنة من ناحية اخرى.
وسيكون تنفيذ هذا الاقتراح عونا للدول المدينة على القيام بمشروعات التنمية.
وسينعكس هذا على النشاط الاقتصادي والاجتماعي الذي تعود آثاره الايجابية على كل من الدائن والمدين.
ثانيا: نقترح على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اعادة النظر في شروطهما القاسية على الدول التي تطلب المساعدة لتحسين اوضاعها.
والمأمول في التعديلات ان تكون من المرونة والانسانية بحيث تراعي الفروق بين دولة وأخرى، وان تكون ملائمة لظروف الدول المقترضة وعونا للتنمية فيها.
ثالثا: زيادة وتنظيم العون العلمي والتقني الذي يقدمه الشمال الى الجنوب، مع مراعاة العناية بالعامل البشري في التنمية دون الاقتصار على الأرقام الحسابية الصماء.
وسيؤدي هذا حتما الى التعاون على صيانة الموارد الطبيعية والبشرية في حاضرها ومستقبلها ومحاربة التلوث ودعم مشروعات التنمية والتوسع فيها ويصبح العلم وسيلة للتعمير والتقدم، لا للتخريب والانحدار».
واختصر سموه رحمه الله أسباب مبادراته الاقتصادية ذات الطابع الانساني لتنمية قدرات الدول النامية فقال: «ان أهل الجنوب والشمال اخوة، اختلف بهم المكان وجمع بينهم الزمان في أسرة الإنسانية الواحدة.
وان التعاون الحضاري هو اللقاء الحميد بين الشمال والجنوب وهو الفجر الصادق للاخاء الإنساني العالمي.
واذا كان البعض مازال يتحدث عن الموارد الطبيعية في بعض دول الجنوب والتوزيع المالي لمناطق انتاج النفط، فلنذكر ان النفط ثروة غير مجددة وان البحث عن بدائله مستمر، وانه مجرد مرحلة في تاريخ الطاقة، وان الأمل الأكبر لتلك الدول يكمن في رفع المستوى العلمي والتقني لأجيالها الجديدة، ذلك لأن عقول البشر هي الثروة القابلة للزيادة بغير حدود.
وبالعلم والتعاون في إطار نظام اقتصادي وإنساني عالمي جديد نرجو جميعا، بعون من الله تعالى، ان نتغلب على الفقر والمجاعات، وان نكون أقدر على مواجهة تقلبات العوامل الطبيعية، وان نساهم بقدر أكبر في الابداع الفكري العالمي، فهذا هو التأمين الحقيقي للأجيال المقبلة.
ويصل سموه رحمه الله في قمة ايثاره تجاه الشعوب المستضعفة وأوج اهتمامه بقضاياها الاقتصادية المصيرية عندما ألقى خطابه في الأمم المتحدة ابان الاحتلال العراقي الغاشم لبلادنا وتحديدا في 27 سبتمبر 1990 عندما قال رحمه الله: «لقد مضى عامان على المبادرة التي قدمتها هنا من فوق هذه المنصة مناشدا إلغاء الديون التي تعاني من وطأتها وأعبائها دول حرمتها مختلف الظروف من الرخاء وتكالبت عليها الضغوط، واذا كان قد تم تحقيق بعض التقدم في هذا الإطار، إلا انه لايزال حجم المشكلة ونطاقها مصدر تهديد خطير لحياة ملايين البشر، وهو التهديد الذي وبلا شك يواجه ايضا الاستقرار والأمن العالميين، اذ توصل بعض المفكرين منذ زمن طويل الى الرباط الوثيق بين الاستقرار الاقتصادي والاستقرار السياسي، وحسبنا ان ننظر في كل ذلك الى النتائج العامة لمؤتمر باريس الذي عقدته الأمم المتحدة هذا الشهر، بشأن مشكلات الدول الأقل نموا لندرك حجم المشكلة والطابع الملح لإحراز التقدم الملموس نحو معالجتها بشكل فعال يخدم مصالح البشرية.
لهذا فإن الكويت من جانبها وانسجاما مع اقتراحنا السابق قررت إلغاء جميع الفوائد على قروضها، كما ستبحث أصول القروض مع الدول الأشد فقرا وذلك من اجل تخفيف عبء الديون التي تقع على كاهل تلك الدول».
لقد كان بلدي يتشرف منذ أولى سنوات استقلاله بأنه في طليعة الدول التي تقدم المساعدات في مجال التنمية للدول الأخرى، وكان حجم تلك المساعدات يشكل أعلى المعدلات بالنسبة للناتج القومي الاجمالي، اذ بلغ 8.3% وهذا يؤكد حرص الكويت على المساهمة في رفع مستوى الشعوب النامية وانها سباقة في بناء البنية الاقتصادية للدول الأخرى».
تلك هي مسيرة المبادرات الاقتصادية التي اطلقها سمو أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الذي قضى معظم حياته السياسية في محاولات تنمية الاقتصاد الكويتي وتطوير امكانيات الدول النامية لمساعدتها على اللحاق بركب الدول المتقدمة، فكان (رحمه الله) أمير الانجازات الاقتصادية ليس على المستوى المحلي فحسب، وانما على المستويين الاقليمي والدولي أيضا.
لقد استطاع سموه رحمه الله، وخلال أكثر من خمسين عاما ان يرسم الملامح المشرقة للكويت في المحافل الدولية فكانت بمنزلة البذرة الإنسانية التي زرعها رحمه الله ليحصد ثمارها في أحلك الظروف التي مرت بها دولتنا الحبيبة عندما قام العراق باحتلال بلادنا فوقفت كل دول العالم مع الكويت تعبيرا عن امتنانها لمواقف الكويت الإنسانية النبيلة.