تحلّ الذكرى الثامنة والعشرون لرحيل نائب حاكم الكويت الشيخ عبدالله مبارك الصباح، في وقت تبقى فيه بصماته واضحة على جسد الوطن في مختلف مؤسساته.
فالرجل العام ـ وفق ما تقول د.سعاد الصباح - يعيش في سجل الوطن بقدر ما تبقى إنجازاته شاهدة على ما قدم لبلاده، ويعيش في ذاكرة الشعب بقدر ارتباط ممارساته بالمبادئ والقيم الأخلاقية لهذا الشعب».
وتضيف في كتابها «عبدالله مبارك الصباح في صور»: «يبقى اسم عبدالله المبارك في ذاكرة الكويت نموذجا لشموخ الرجل العام، ولكبرياء السلطة وهيبتها، لأنه احترم نفسه واحترم المواقع التي شغلها في حكومة بلاده، وتصرف ـ وهو خارج السلطة - وفقا لهذا الاعتبار، لذلك، فرض على الآخرين احترامه وتقديره، فقد كان كبيرا في الحكم، وأكبر وهو خارجه».
في يوم 15 يونيو 1991 ودع الكويتيون والعرب رجلا، كتب اسمه بحروف عربية ظاهرة البيان على صفحات تاريخ الكويت الحديث.. بعد تحرير الكويت بأشهر قليلة، وقد اطمأن بأن جهوده الكبير وجهود أسرته في محاربة الغزو وعودة الشرعية لم تذهب سدى.
هو عبدالله مبارك الصباح، صقر الخليج، ونائب أميرها، والنجل الأصغر لأسد الجزيرة مؤسس الكويت الحديثة الشيخ مبارك الكبير.
ولد الشيخ عبدالله المبارك على الأرجح في 23 أغسطس 1914، وقد عشق الكويت منذ الصغر، ودافع عنها وذاد عن حياضها، فاضطلع بمهام الرجال منذ أن كان في الثانية عشرة من العمر حين تسلم حراسة بوبات السور، حتى وصل إلى مكانته المرموقة قائدا للأمن العام والجيش والشرطة والطيران والمعارف ومؤسسا للإذاعة والنوادي الأدبية ثم نائبا للحاكم على مدى 10 سنوات إبان حكم الشيخ عبدالله السالم الذي كان يغيب كثيرا في الخارج، فيتولى مهمة إدارة الدولة الشيخ عبدالله المبارك. وهو يعد من مؤسسي الكويت الحديثة، وممن خططوا وشيدوا وعمروا وأقاموا الدعائم الأساسية لنهضتها.
وبهذه المناسبة، صدرت مؤخرا الترجمة الفرنسية من كتاب «صقر الخليج.. عبدالله مبارك الصباح»، حيث قامت إحدى دور النشر في باريس بترجمته وإصدار الكتاب ليكون في متناول الناطقين باللغة الفرنسية. وتأتي هذه الترجمة تأكيدا لأهمية هذا الرجل العربية والعالمية، حيث صدرت الطبعة العربية الخامسة من الكتاب عام 2014، وتبعتها الترجمة الإنجليزية عام 2016.
في الكتاب توثق د.سعاد الصباح مسيرة زوجها، وقد ضمنته أدق تفاصيل حياته منذ ما قبل ولادته بقليل وحتى ما بعد وفاته بقليل، وما رافق ذلك من أحداث شملت معظم سنوات القرن العشرين، وما كان لها من أثر كبير في رسم خريطة الكويت سياسيا واقتصاديا وإنسانيا فضلا عن رسمها جغرافيا أيضا، مع الإشارة للأحداث العالمية الكبرى أو الإقليمية المهمة، ذات الأثر.
ينقسم الكتاب إلى عدة فصول تتضمن سردا للوقائع وصورا للوثائق التي تم الاعتماد عليها في توثيق ما ورد في الكتاب، سواء كانت أجنبية أو عربية، بالإضافة إلى مقتطفات من تعليقات الصحافة العربية على الكتاب.
تقدم الكاتبة في هذا الكتاب الضخم حياة زوجها عبدالله مبارك كأنما تسرد سيرة وطن في رجل، لتتعلم الأجيال الشابة منه -كما تشير المؤلفة - مبادئ الفروسية والرجولة والشجاعة والكرم والوطنية، على اعتبار أن عبدالله المبارك كان منارة عالية، وبرجا من أبراج الكويت يدل المسافرين والسفن والبحارة ويفتح لهم طريق السلامة إلى موانئ القرن الواحد والعشرين.
ويأتي الكتاب ضمن كتب التراجم أو السير الذاتية، موضوعه هو «قصة حياة الشيخ عبدالله مبارك الصباح ودوره في بناء الكويت الحديثة».
ويبحث الكتاب في التطور السياسي والاجتماعي وعملية التحديث وبناء المؤسسات في الكويت، دارسا السمات الشخصية المجردة لصاحب السيرة، في سياقها الاجتماعي.
كما يبحث الكتاب في العلاقات العربية والدولية، فيدرس صفحات من تطور الأوضاع العربية، وقضية انضمام الكويت إلى جامعة الدول العربية قبل الاستقلال، ويعرض لجذور الأطماع العراقية في الكويت، وعلاقات التعاون والتنافس بين بريطانيا والولايات المتحدة في منطقة الخليج، وهي علاقات كانت بين قوة استعمارية متراجعة يخفت نفوذها وقوة أخرى شابة صاعدة خرجت منتصرة من الحرب العالمية الثانية، وسعت لوراثة نفوذ الدول الأوروبية وبناء إمبراطورية جديدة لها.
حرصت الكاتبة على متابعة كل ما صدر عن مرحلة الخمسينيات من كتب أو ما تم نشره من وثائق لم تكن متاحة من قبل عند إصدار الطبعات السابقة سواء كانت من الوثائق البريطانية او العثمانية، او الخليجية، وكذلك من كتب السيرة الذاتية لعدد من ضباط الجيش الكويتي الذين تعرضوا بالتفاصيل لعملية بناء الجيش ولدور الشيخ عبدالله مبارك الصباح، ومن المجموعة الكاملة لمجلة الكويت اليوم، والتي كانت بعض أعدادها غير متاحة من قبل.
تقول د.سعاد الصباح عن كتابها هذا في طبعته الجديدة: «إن هدفي الوحيد هو إظهار وجه الحقيقة لمرحلة مهمة في تاريخ الكويت». وكان صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد قد أشاد في رسالة وجهها إلى د.سعاد الصباح بمناقب الشيخ عبدالله المبارك وبدوره البارز في نهضة الكويت.
وكتبت د.سعاد الصباح في مقدمة كتابها: «عبدالله مبارك الصباح كتاب بألوف الصفحات والعناوين، لابد للأجيال الكويتية الشابة أن تقرأه، لتتعلم مبادئ الفروسية، والرجولة، والشجاعة والكرم، والوطنية، وهو منارة عالية، وبرج من أبراج الكويت، يدل المسافرين، والسفن، والبحارة، ويفتح لهم طريق السلامة إلى موانئ القرن الواحد والعشرين».
وسلطت د.سعاد الصباح الضوء على حياة رفيق دربها في كتاب آخر أصدرته حمل عنوان «عبدالله مبارك الصباح في صور»، فقالت في مستهل الكتاب: «.. نشأ الشيخ عبدالله المبارك وتربى في بيئة قبلية صحراوية، واستقى من هذه البيئة سجاياه وقيمه وأخلاقه ومبادئه القويمة التي كانت نبراسا له في طفولته، كما كانت أرضية صلبة وقف عليها بثبات في شبابه، ومنها استمد قوته وتميزه كرجل دولة حين باشر مسؤولياته الحكومية المتعددة. وقد تركت هذه النشأة آثارها في خلقه وطباعه، فكان صبورا قادرا على تحمل الشدائد، ومقداما لا يهاب الأخطار، وسيرته مفعمة بالأحداث التي تشير إلى شجاعته الشخصية».
ولأنه قد تولى مسؤولية القبائل في المنطقة تابعت قائلة: «غرزت فيه البادية أيضا أخلاق الكرم والإيثار، فكان لا يبخل بشيء، ولا يخيب رجاء محتاج أو طالب حاجة حتى إن البعض وصفه بالتبذير، والحقيقة أن هناك فارقا كبيرا بين الكرم والإسراف، فالكرم هو خلق يتطبع به الإنسان منذ الصغر، ويعيش معه حتى الممات غنيا كان أو فقيرا، وهو كان كريما منذ صغره حسب عادات البادية». كما تولى القضاء في النزاعات القبلية وقام بحماية الحدود من المتسللين عبر البوادي.
كان الشيخ أحد فرسان الكويت المعدودين، وهو الذي وضع نواة «نادي الفروسية والرماية»، وخصص الأرض الفضاء الممتدة ما بين قصر مشرف والقصر الأبيض لممارسة هوايته، ودعا الشباب الكويتي إلى ممارسة الفروسية.
ظهرت الشخصية الاستثنائية لهذا الرجل في مجتمع تقليدي فيه ما فيه من القيود والمعيقات، وقد تطلع إلى آفاق رحبة ودعم قوى التغيير في الكويت، بل صنعها في كثير من المجالات.
وبصفته أصغر أبناء الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت، كان منذ بداية العشرينيات من القرن الماضي عماً لمن تولوا حكم الكويت، مع تعبيره الصريح بالولاء والطاعة لهم.
ولا يخفى دور الشيخ عبدالله في إنشاء الأندية والجمعيات الثقافية التي مثلت اللبنات الأولى في بناء المجتمع المدني في الكويت، وهو من هو في كويت الخمسينيات من حيث دوره في اتخاذ القرار وإدارة العلاقة بين شيوخ آل الصباح والشعب والمحيط العربي والإقليمي والمملكة المتحدة والعالم.
وتعود رفيقة دربه د.سعاد الصباح لتقول في كتابها «عبدالله مبارك الصباح في صور»: «مع نهاية الخمسينيات أصبح الشيخ الشخصية البارزة في حكم الكويت ونائب الحاكم، وبفضل جهوده تقدمت أساليب الحكم والإدارة، وبلغت دوائر الحكومة أكثر من عشر دوائر، تولى هو مباشرة أهمها وهي دائرة الأمن العام التي أشرفت على الجيش والأمن الداخلي والطيران والسفر والإقامة والإذاعة. ولا يكاد يوجد مجال لم يكن فيه للشيخ دور وإسهام، فهو الذي أسس محطة الإذاعة الكويتية ومجلة حماة الوطن، وأنشأ مصلحة الجوازات، وأقام نادي الطيران والنادي الأهلي، وأشرف على توسيع ميناء الأحمدي وأشرف على تصدير أول شحنة نفط في تاريخ الكويت، وتابع جهود التوسع في التعليم وتطويره، ودعم غرفة التجارة والصناعة، هذا، فضلا عن إسهامه المباشر في تأسيس بناء القدرات العسكرية والأمنية».
يشهد السياسيون المطلعون على مرحلتي الخمسينيات والستينيات بالأيادي البيضاء لعبدالله المبارك في توطيد العلاقات الكويتية- العربية من جهة، والعربية- العربية من جهة أخرى، وكذلك انضمام الكويت إلى جامعة الدول العربية قبل الاستقلال، ومواجهة الأطماع العراقية إبان فترة حكم عبدالكريم قاسم، وكذلك مواجهة آثار الصراع العالمي على منطقة الخليج.
وقد حاز الشيخ أوسمة الشرف من الدرجة الأولى من معظم البلاد العربية، ومن ذلك تكريم الرئيس المصري محمد نجيب للشيخ بوسام رفيع، وأقام الرئيس المصري جمال عبدالناصر للشيخ عبدالله المبارك مأدبة عشاء بمنزله بمنشية البكري قلده فيها أعلى الأوسمة المصرية، وكانت تلك الزيارة بداية لعلاقة وطيدة بين الرجلين.. بالإضافة إلى أوسمة تقلدها من القيادات في المغرب ولبنان وسورية ولبنان ودول عربية أخرى، كما قامت الحكومة البريطانية عام 1945 بمنحه وسام الإمبراطورية الهندية بدرجة رفيق، نظرا لجهوده في الحرب العالمية الثانية.
شرع الشيخ عبدالله المبارك في العمل العام في سن مبكرة نسبيا منذ العام 1926، وذلك عندما كلف حراسة إحدى بوابات سور الكويت، ونجح في مهمته تلك نجاحا مبهرا بكل حزم وذكاء، واستمر نشاطه في دوائر الحكم الكويتي بعد ذلك ما يقارب 35 عاما منفذا أو صانعا للقرار.
ورغم أن تفاصيل حياة عبدالله المبارك حسب الوثائق التاريخية المتوافرة غير واضحة ما بين عامي 1926-1940 لكن آثارها واضحة في حقبة حكم الشيخ أحمد الجابر وما بعدها، من حيث اضطلاع الشيخ عبدالله المبارك بمهام أمنية مباشرة ومهمة، وإعداده ليكون نائب حاكم الكويت في عهد الشيخ عبدالله السالم، حيث تولى رئاسة دائرة الأمن العام في العام 1942، وأصبح حاكما لمدينة الكويت إثر وفاة الشيخ علي الخليفة. ويتذكر بعض الناس تصرف الشيخ عبدالله المبارك بحكمة منقطعة النظير بعد قيامه بمعاقبة اثنين من خدم الأميرة نورة بنت عبدالرحمن آل سعود بسبب تطاولهما على بعض المواطنين الكويتيين، وهو ما أدى إلى موقف متأزم مع الملك عبدالعزيز آل سعود، وانتهى بإعجاب الملك بشجاعة عبدالله المبارك، وقام بإهدائه سيارتين، وكذلك شجاعته المعروفة في تجاوز خطر كبير هدد الكويت في العام 1944 بسبب مقتل أحد أفراد شيوخ قبيلة المنتفق والوعيد بشن حرب على الكويت، وتدخله في تهدئة الأجواء وحل الخصام.
أما في السنة التالية، فقد اتجهت جهود عبدالله المبارك نحو فض النزاعات القبلية والمشاجرات والسرقات ومهمة تحقيق الأمن في الكويت، وقد استثمر مكانته كمسؤول عن البادية والقبائل، وكان مقره آنذاك في العام 1945 بمنطقة الصفاة، وتُوجت أعماله في ذلك العام بحصوله على وسام الإمبراطورية الهندية من الحكومة البريطانية بدرجة رفيق CIE، تقديرا لجهوده خلال الحرب العالمية الثانية.
بعد ذلك في العام 1948 وبطلب من أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر، قام عبدالله المبارك بإنشاء إدارة تتولى شؤون جوازات السفر والجنسية، وفي العام 1949 أصدر هاني قدومي أول جواز سفر كويتي بأوامر مباشرة من الشيخ عبدالله المبارك، وفي العام ذاته بدأت بوادر التوتر بينه وبين الحكومة البريطانية تطفو على السطح، إثر قيامه بتسلم وسام من الحكومة اللبنانية دون استئذان الحكومة البريطانية التي كانت مرتبطة مع الكويت بمعاهدة حماية موقعة منذ 1899.
وتروي د.سعاد الصباح في كتابها «صقر الخليج» موقفا حازما للشيخ عبدالله المبارك في إلغاء تأشيرات دخول العرب إلى الكويت، تقول: «.. قام الشيخ بإلغاء تأشيرات الدخول للكويت بالنسبة للعرب، وله موقف مشهود بخصوص هذا الموضوع، ففي عام 1947، عندما وصلت الرحلة الأولى لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية من بيروت إلى الكويت، أمر الوكيل السياسي بأن يحصل الزوار العرب على تأشيرات دخول، وتبين أن الطائرة تحمل أشخاصا يحملون تأشيرات حصلوا عليها من السفارات البريطانية في بلادهم، وآخرين من دون تأشيرات، فأمر الشيخ عبدالله بدخول من لا يحملون تأشيرة، ومنع دخول الحاملين لها. وقال: «كلنا بلاد عربية، لا يجوز أن يحتاج العرب إلى تأشيرة لزيارة بلدانهم».
وكانت طلبات العرب الراغبين في زيارة الكويت وقتذاك ترسل إلى مكتب الوكيل السياسي للحصول على الموافقة، لذلك، عندما أعلن الشيخ عبدالله إلغاء تأشيرات الدخول بالنسبة للعرب، ارتدى الوكيل زيه العسكري وذهب لمقابلة أمير البلاد مبدياً استياءه، فاتصل الحاكم بالشيخ عبدالله - الذي كان خارج الكويت - وأخبره بما حدث وبأن الوكيل السياسي سيكون في استقباله بالمطار، وأن عليه توضيح الأمر له، ثم الحضور لمقابلته لإبلاغه بالنتيجة.
وبالفعل، استقبل الوكيل السياسي الشيخ عبدالله في المطار - وكان معه سكرتير الحكومة عبدالله الملا - واقترح عليه الذهاب معا لمقابلة الحاكم، فطلب الشيخ منه أن يذهبا أولا إلى مكتبه بدائرة الأمن العام، وسأله الشيخ عن أسباب تدخله في أمور تدخل في صميم الشؤون العربية، وعما إذا كان هذا التدخل بناء على تكليف رسمي من حكومته أو مبادرة شخصية منه، فأجاب الوكيل السياسي بأنه يتحدث بصفته الشخصية، وأنه لم يكن يقصد التدخل في الشؤون الداخلية للكويت. وعندئذ سأله الشيخ لماذا ذهب إذاً لمقابلة الحاكم بالزي العسكري، ما يعطي الانطباع بأنه موفد في مهمة رسمية، وانتهى الأمر باعتذار الوكيل السياسي، ولم يغير الشيخ قراره».
لاحقت الشائعات الشيخ عبدالله المبارك كثيرا، وروج بعضهم أنه يرنو لسدة الحكم، ومن أكبر الأدلة على بطلان تلك الدعاوى، قيام الشيخ عبدالله المبارك باستقبال الشيخ عبدالله السالم القادم من الهند قبيل تنصيبه أميرا على الكويت بأيام قليلة في العام 1950 بعد وفاة الشيخ أحمد الجابر.
بعد الثقة التي حازها الشيخ عبدالله المبارك من أمير الكويت بدأ في العام 1951 بتعميق مفاهيم بناء الدولة الحديثة، وذلك لظهور بوادر الطفرة النفطية، ومن ذلك أنه أشرف على إنشاء ميناء الأحمدي، وقام بزيارة تاريخية إلى لندن، وترأس إذاعة الكويت مع انطلاق بثها لأول مرة من مبنى الشرطة والأمن العام، وقد استمر حتى العام 1960 رئيسا لها.
ولأسباب مختلفة ما بين سفر الأمير الشيخ عبدالله السالم وانشغالاته الخارجية والدواعي الإستراتيجية، فقد تبوأ الشيخ عبدالله المبارك في عقد الخمسينيات منصب نائب الحاكم بالكويت مرات متعددة وبشكل متكرر ومتوال على مدى عشر سنوات، وبخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة التي كانت في معظمها الحاكم الفعلي بالنيابة، وذلك بسبب مرض سمو الشيخ عبدالله السالم وسفره إلى الخارج، فقد تولى الشيخ عبدالله المبارك إدارة الأمور لأول مرة عام 1950، ثم عام 1951، ثم تولاه في عام 1952 لمدة ثلاثة أشهر (مارس ونوفمبر وديسمبر)، وفي عام 1953 لمدة ثلاثة أشهر أيضا (فترة الصيف)، وفي عام 1954 لمدة شهرين (أبريل ومايو)، وفي عام 1955 لمدة ثلاثة أشهر (أبريل ومايو وديسمبر)، وفي عام 1956 لمدة شهر واحد (أكتوبر)، وفي عام 1957 لمدة أربعة أشهر (أبريل ويونيو ونوفمبر وديسمبر)، وفي عام 1958 لمدة تسعة أشهر (ما عدا أغسطس وسبتمبر وأكتوبر)، وفي عام 1959 في أغلب الشهور لسفر الحاكم كل شهر من شهور السنة ما عدا شهر أكتوبر، وفي عام 1960 لمدة ستة أشهر (يناير وأبريل ومايو ويونيو وأكتوبر ونوفمبر).
لقد كان الدور الأكبر للشيخ في حقبة السنوات العشر السابقة للاستقلال، ويبدو أن الله قدر له أن يكون هناك رابط بينه وبين وطنه في مرحلة حاسمة من التطور لكليهما، فقد كان الشيخ مقبلا على الأربعينيات من العمر، وهي مرحلة الرجولة والقدرة على العطاء، في وقت كانت الكويت تتفجر حيوية ونشاطا، وتتدفق بالخير والنماء، وتفاعل الرجل مع متطلبات المرحلة من أجل بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
وخلال ذلك العقد كانت الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والتعليمية التي قام بها عبدالله المبارك في أوجها، ففي العام 1952 تولى الرئاسة الفخرية لنادي الاتحاد الرياضي والنادي الثقافي القومي منذ تأسيسه، وافتتح النادي الأهلي، وتقلد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من قبل الرئيس السوري أديب الشيشكلي، واستقبل الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق خلال زيارته للكويت وبرفقته نوري السعيد رئيس الوزراء.
وفي العام التالي 1953 استقبل الشيخ عبدالله المبارك الأمير عبدالإله والملك فيصل الثاني في قصر مشرف، وترأس الوفد الكويتي الذي شارك في احتفالات تتويج فيصل الثاني ملكا على العراق، وأعلن خطة لإنشاء إدارة خفر السواحل، وأنشأ نادي الطيران وافتتح نادي ومدرسة الطيران في نفس العام.
ومما عرف عن الشيخ عبدالله المبارك آنذاك حزمه والتزامه الأخلاقي، فقد قام في العام 1953 بطرد خمسة من التجار اليهود إلى خارج الكويت، أبرزهم أنور كوهين، وحذر إدارة النادي الثقافي من الاستقطاب السياسي، وخلال ملاحقته عددا من المهربين عام 1954 تعرض لحادث خطير نجا منه بفضل الله، وفي العام ذاته قدم احتجاجا شديد اللهجة إلى بريطانيا بسبب احتساء بعض الموظفين البريطانيين الخمور على الملأ، وهو ما يتنافى مع تعاليم الإسلام والعادات العربية الأصيلة التي تحكم أبناء الكويت، وفي العام ذاته تم تعيينه قائدا عاما للجيش الكويتي الذي وضع لبناته قبل ذلك بسنوات، وفي العام 1959 احتج لدى بريطانيا بسبب اللافتات الإنجليزية الماسة بالآداب.
وكترجمة أخرى للعلاقة المتوترة مع المملكة المتحدة وصفت الخارجية البريطانية في العام 1955 إمكانية تولي عبدالله المبارك الحكم في الكويت بأنها كارثة، واشاعت لعدة سنوات نبأ تجهيز نفسه لخلافة الشيخ عبدالله السالم.
ومن الوقائع ذات الأثر الكبير في تاريخ الكويت، قيام الشيخ عبدالله المبارك في العام 1956 بزيارة بريطانيا بدعوة من الجنرال تمبلر رئيس هيئة الأركان العامة للجيش البريطاني، وكان على رأس جدول أعماله التفاوض للحصول على عشر عربات مصفحة، وكذلك قيامه في نفس العام بأولى زياراته الرسمية إلى مصر بدعوة وجهتها له حكومة الثورة والمؤتمر الإسلامي، ثم عودته من هناك لقيادة الشرطة والأمن على إثر الأحداث المتفجرة في الكويت ومظاهرات التضامن مع مصر بسبب العدوان الثلاثي عليها.
تقول د.سعاد الصباح: «لم يكن من قبيل المصادفة أن الشيخ عبدالله المبارك لم يسافر قط إلى إيران أو الهند وباكستان خلافا لما كان معهودا في هذه الفترة، وأن زياراته الكثيرة تركزت على العراق وسورية ولبنان ومصر والسعودية وبلدان الخليج الأخرى. واحتل لبنان مكانة خاصة في قلب الشيخ، وكانت زياراته لهذا البلد مشحونة بالنشاطات الرسمية والاجتماعية والشخصية مع كثير من الهيئات والأفراد، وتعرف عن قرب على عدد من رؤساء الوزراء (..) وكان من الطبيعي أن تتوطد علاقة الكويت بالسعودية، وهي علاقة تاريخية تعود إلى عهد الراحلين الشيخ مبارك الكبير والملك عبدالعزيز آل سعود، وقد تعززت هذه العلاقة بحكم الصداقة الوثيقة التي ربطت الشيخ عبدالله المبارك بالملك سعود».
وعلى صعيد التطوير الأمني لم يخل العام 1957 من إنجازات، حيث أصدر الشيخ عبدالله المبارك قرارا خاصا بتعديل حدود ميناء الأحمدي لتوسيعه، ثم صدر مرسوم أميري بدمج «قوات الأمن» و«قوات الحدود» برئاسة الشيخ عبدالله المبارك.
ومرة أخرى يمثل الشيخ عبدالله المبارك الكويت في المؤتمر الإسلامي بالجزائر في العام 1958، ويقوم بزيارات متكررة إلى العراق بحثا عن حلول لقضية الحدود، ويطرح فكرة انضمام الكويت للجامعة العربية، ويجتمع مع الملك سعود ويقترح عقد مؤتمر أقطاب العرب.
أما العام 1959 فقد كان حافلا بالأحداث التي أمسك عبدالله المبارك بخيوط اللعبة فيها، حيث عمل على زيادة عدد أفراد الجيش الكويتي، وأجرى مشاورات في لندن بشأن الخطط الدفاعية التي ستقدمها بريطانيا للكويت في حال حدوث عدوان خارجي على إثر التهديدات العراقية المتكررة آنذاك، وألقى كلمة بصفته حاكما بالنيابة أشاد فيها بالوحدة السورية ـ المصرية.
وأما الحدث الأهم في العام 1959 فكان اجتماع المجلس الأعلى برئاسة سمو الشيخ عبدالله السالم، حيث انتقد هو والشيخ فهد السالم السلوك المتعاطف لسمو الشيخ عبدالله المبارك والشيخ صباح الأحمد تجاه المعارضة، وذلك على إثر التوجهات الناصرية الشائعة آنذاك، ومن ثم إصدار سمو الشيخ عبدالله السالم مرسوما بدمج الشرطة والأمن العام في دائرة واحدة يرأسها سمو الشيخ عبدالله المبارك. وفي غضون ذلك أشيع أن عبدالله المبارك أمر بترحيل 500 عراقي على إثر أحداث الثورة العراقية والمد الشيوعي الذي وصل الكويت آنذاك.
وعلى الصعيدين التعليمي والثقافي، فقد تبرع الشيخ عبدالله المبارك في العام 1959 بأرضه في دسمان لإنشاء مبنى إدارة الصحة المدرسية، وأصدر تعليماته بإقرار مشروع إعداد سجل تاريخي يحتوي على الوثائق الخاصة بتاريخ الكويت. وترأس الشيخ أول اجتماع لمجلس المعارف عام 1946. وفي فبراير من العام 1960 ترأس اجتماعا لمجلس المعارف، وهو الاجتماع الذي تم فيه طرح إنشاء جامعة الكويت، الأولى والوحيدة حتى اليوم.
أمنيا قام الشيخ عبدالله المبارك بالرد على السلطات العراقية بعدم موافقته على توصيل مياه شط العرب إلى الكويت؛ لأن العراق وقع في أيدي الشيوعيين الذين يقومون بعمليات تصفية دموية ضد معارضيهم. وفي ذات العام سعى الشيخ عبدالله المبارك لتصفية أجواء العلاقات بين القاهرة وتونس.
وفي العام الأخير للشيخ عبدالله المبارك في دوائر الحكم الرسمية أي في العام 1960 أفصح الشيخ عن رغبته في شراء ست طائرات تدريب نفاثة من بريطانيا، وحاز الوشاح الأكبر للقديس مرقص من قبل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، وتم دمج هيئة التنظيم وهيئة المجلس الأعلى في هيئة واحدة مكونة من سمو الشيخ عبدالله المبارك وسمو الشيخ سعد العبدالله و8 أعضاء من خارج أسرة الصباح.
وفي ذات العام قام الشيخ عبدالله المبارك باستقبال ملك المغرب محمد الخامس، ونال الوشاح الأكبر لوسام الاستحقاق اللبناني من رئيس الجمهورية فؤاد شهاب، وسافر بصحبة سمو الشيخ عبدالله السالم إلى الرياض للتفاوض على الأرض المحايدة، وسافر إلى العراق لحضور الاحتفال بافتتاح الميناء الجديد في أم قصر والتقى بعبدالكريم قاسم، وفي الأشهر الأولى من العام 1961 استقبل الملك سعود خلال زيارته للكويت.
بعد ذلك، وعلى إثر مجموعة من الملاحظات التي أبداها الشيخ عبدالله المبارك قرر التنحي عن جميع مناصبه الرسمية وتقدم باستقالته إلى الشيخ عبدالله السالم، ثم سافر مع عائلته للإقامة في بيروت، رغم رفض المجلس الأعلى لها في البداية وتوقع بريطانيا عودته للحكم.
في العام 1960 تزوج الشيخ عبدالله المبارك من سعاد محمد الصباح، ورزق بأول أطفاله منها (مبارك) في 29 أغسطس 1961، وقد أنجب منها أيضا محمد في 1971، وأمنية في 1972، ومبارك في 1978، وشيماء في 1980.
بعد ابتعاد الشيخ عبدالله المبارك عن أضواء الحكم، بقيت الكويت في قلبه وعقله، فقد كان حريصا على أن يرفع اسمها عاليا ويضيء شموعها في المحافل العربية والدولية، ومن ذلك قيام سموه في العام 1963 بزيارة إلى الفاتيكان بدعوة من البابا، وإهداؤه الجيش المصري 100 سيارة جيب، ولقاؤه في العام 1965 بالرئيس العراقي عبدالسلام عارف في مصر، وإرساله في العام 1966 شيكا بمبلغ مليون دولار للرئيس المصري جمال عبدالناصر تاركا للرئيس أمر توجيهه إلى أي غرض من أغراض النفع العام، وتبرعه في العام 1967 بمساعدات طبية لمصر، وفي العام 1973 بمبلغ مليون دولار لصالح المجهود الحربي.
وكان لله قضاؤه في العام 1973، حيث ودع الشيخ عبدالله المبارك ابنه البكر في مصر، وأودعه ثراها حزينا مصابا.
رائد التحديث والتقدم وصاحب نظرة واقعية
رغم طول الغياب، لم تخرج الكويت من فكر عبدالله المبارك، فقد عاد في العام 1978 مع أسرته للإقامة في الكويت، وفي العام 1983 أرسل خطابا إلى الشيخ جابر الأحمد يعبر فيه عن قلقه وهواجسه حول الأوضاع في الكويت آنذاك، وتكرر ذلك في العام 1990، بعدما غادر سموه الكويت في 15 يونيو 1990 إلى لندن، حيث وجه من هناك خطابا في أكتوبر إلى سمو الشيخ جابر الأحمد في الطائف على إثر أحداث غزو الكويت عبر فيه عن ألمه، وأسدى له بعض النصائح.
إن مسيرة حياة عبدالله المبارك توضح بجلاء أنه كان رائدا من رواد التحديث والتقدم في سائر مجالات الحياة، فعلى مستوى الفكر والتخطيط، امتلك الشيخ نظرة شاملة للأمور، فكان يحيط بأي موضوع من كل جوانبه، نلحظ ذلك مثلا في خطته لبناء الجيش، وكيف سعى لاستكمال تطوير القدرات العسكرية للكويت في مختلف جوانبها من سلاح وعتاد وذخيرة وبشر وتدريب، ونلحظه أيضا في إدراكه لمضمون الاستقلال الوطني باعتباره بناء المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية القادرة على الإنجاز والأداء، وكذلك إدراكه أن بناء المؤسسات يتطلب توفير الكوادر والعناصر البشرية المؤهلة لإدارتها، ومن ثم، اهتم بالتعليم وإرسال البعثات الخارجية لكي يتعرف شباب الكويت على علوم العصر ونظمه.
وعلى مستوى الممارسة والتطبيق، تمتع الشيخ بالنظرة الواقعية والقدرة على المواءمة بين ما تطلبته العلاقة القانونية مع بريطانيا من توازنات، والسعي في ذات الوقت لتوسيع دائرة حرية الحركة الخارجية للكويت.
وتحين لحظات الألم الصعبة، ويأتي الخبر الحزين، في 15 يونيو 1991، حيث تفيض الروح إلى خالقها أثناء وجود سمو الشيخ عبدالله المبارك في لندن، ويوارى الثرى في مقبرة الصليبخات بالكويت في اليوم التالي.
بوداع عبدالله المبارك جسدا، أفلت شمس مشرقة في تاريخ الكويت، كانت فيها المرحلة التاريخية هي الأكثر اضطرابا وخطرا لشعب كتب الله له أن يواجه مصيره، ولكنه سبحانه وتعالى هيأ له رجالا كعبدالله المبارك يديرون له دفة السفينة إلى بر الأمان.