رحل المؤرخ وعاشق التراث أبو مرزوق، سيف مرزوق بن شملان آل سيف، وترك لنا إرثا تراثيا ثقافيا لا يقدر بثمن، إنتاجه الفكري وفير، تخصص في التراث البحري الكويتي وكتب كتابه الشهير «تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي»(1975)، كما كتب عن «الألعاب الشعبية الكويتية» (1968)، وله كتاب «من تاريخ الكويت» (1959)، وقدم برنامج «صفحات من تاريخ الكويت» مع زميله الإعلامي المرحوم رضا الفيلي، فنجحا في الحفاظ على التراث الشفهي وقدماه على لسان رجاله في حلقات لا يزال يبثها تلفزيون الكويت حتى يومنا هذا.
أما مقالاته الصحافية فهي كثيرة جدا، وقد ضمها في كتابه الأخير بعنوان «رحلتي مع الكلمة» الذي طبعه عام 2010 ووزعه بشكل محدود جدا على أصدقائه المقربين، وكان لي الشرف الكبير حين خصني بنسخة منه، وأوصى بعدم نشره في السوق إلا بعد وفاته.
سيف لم يحافظ على عناصر وأدوات التراث الكويتي في منزله فقط، بل امتد ذلك إلى ممارسته كنمط حياتي يومي له.
فعلى سبيل المثال، كنت أراه في ديوان الشملان المطل على شارع الخليج العربي، شخصية تاريخية فذة، نعم شخصية، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، أنيق في هندامه ولباسه الكويتي، وطريقته في الجلوس تذكرني بالصور القديمة لكبار الشخصيات في قهوة بوناشي الشهيرة.
لم يتأثر سيف بحركية المجتمع وتطوره وتغيره المستمر والسريع، فقد صارع كل تلك المتغيرات ليحافظ على شخصيته التي ابتغاها لنفسه دون تغيير حتى وافاه الأجل المحتوم.
فله على سبيل المثال طريقته الخاصة في شرب الشاي، وهي طريقة قديمة، تستخدم لتخفيف سخونة الشاي، فيقوم بوضع الصحن الصغير في راحة يده اليمين ويمسك بالاستكانة بأصابع يده اليسار، ويسكب قليلا من الشاي الساخن في الصحن الصغير وينفخ عليه لتبريده، ثم يشربه من الصحن، وهكذا يكرر هذه العملية حتى يشرب كل الشاي في الاستكانة.
وأعتقد أن هذه الطريقة في شرب الشاي انقرضت الآن بعد رحيل أبو مرزوق!
لمست في سيف التواضع، للكبير والصغير، وشغفه الكبير بالتعرف على زائريه في الديوانية، وما أن يتعرف على عائلة الزائر، حتى ينهال عليه بذكرياته عن عائلته وشخصياتها.
وفي أول زيارة لي لديوان الشملان، عرفني عليه فيصل الشملان وقال له: «هذا الدكتور وليد السيف»، فرد سيف: «أي سيف»، قلت له: الموسى السيف «فرد بسرعة»: والنعم، يعني يصير لك سليمان الموسى السيف، إللي كان مع الشيخ عبدالله المبارك الصباح؟ قلت له: نعم، هو شقيق أجدادي من الأم والأب.
فسألته: «أتعرفه؟»، فرد بتعجب: «أكو واحد في الكويت ما يعرف سليمان الموسى، أبو چريم! الله يرحمه ويغفر له، وأخوه شاعر معروف اسمه الملا علي وعنده قصيدة مشهورة عن الغوص.
وكذلك له قصيدة أخرى يمتدح بها الملك عبدالعزيز آل سعود، وغناها مطرب الكويت الأول عبداللطيف الكويتي.
وسجلها على أسطوانة ونالت شهرة كبيرة حيث وصل سعرها إلى 30 روبية، وهي أغلى أسطوانة بيعت في الكويت آنذاك». وبدأ يروي للحاضرين بعض حكايات «أبو چريم».
كان سيف يحب يروي الحكايات التاريخية والتراثية التي شهدها بنفسه خلال حياته المديدة. في أحد الأيام، كنت جالسا في ديوان الشملان أستمع إلى حديثه عن طير مشهور في الكويت من طيور الربيع الجميلة، يطلق عليه «حمامي أعربي» ويروي حوله الحكايات حول «الحبال» أي صيده بالفخ وكيفية تربيته، لأنه -بخلاف الطيور الربيعية الأخرى- يمكنه أن يعيش فترة طويلة في القفص.
وقال سيف: «أنا أحب الحبال لصيد هذا الطير العجيب، وصيده ليس بالأمر السهل، فيه تعب ومشقة، وأذكر أن في مرة ربيته في منزلي وعاش لمدة ستة شهور وبعدها مات، وحزنت عليه حزنا شديدا».
وبعد هذه الرواية، أيقنت أن أبو مرزوق عاشق لهذا الطير، فأهديته صورتين للحمامي أعربي وهو يتأهب لأكل الغبي (وهو دودة متحركة) في الفخ.
وعندما شاهد الصورتين، كانت فرحته بهما لا توصف، وقرر تعليقهما في ديوان الشملان ليراهما كل يوم يجلس في الديوان ويروي ذكرياته حول صيد الحمامي أعربي.
لقد سبق سيف منظمة اليونيسكو بعقود من الزمن في صون التراث الثقافي والحفاظ عليه، خصوصا التراث الثقافي غير المادي كالعادات والتقاليد والأهازيج والاحتفالات واللغة والألعاب والفنون الشعبية والمهن البحرية وغيرها.
كتب عنها منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي، بينما اتفاقية اليونيسكو لصون التراث الثقافي غير المادي انطلقت عام 2003م.
لقد كان أبو مرزوق محاربا شرسا لكل من يحاول طمس الهوية الكويتية وتشويه تراثها الثقافي، بشقيه غير المادي والمادي، كالمباني التاريخية على سبيل المثال، وهدم مدرسة المباركية (القديمة) التي درس فيها، وهي أول مدرسة نظامية في الكويت، بقيت في ذاكرته حتى آخر سنوات عمره كجريمة عظمى بحق أجيال الكويت الذين درسوا فيها، ودائما كان يردد: «ليش هدموها.. مو حرام؟!!»
وختاما، لا يبقى من تاريخ الدول إلا ما أبدعه أهلها وما أنتجه البررة من أبنائها من تراث ثقافي يجسد هويتهم الوطنية.
وكان أبو مرزوق ابناً باراً للكويت وأهلها، مخلصا، أمينا، كريما، وصادقا في كل ما نقله بالقلم والصوت والصورة عن بني جيله وأسلافهم.
رحم الله أبا مرزوق رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته وأثابه على جهوده الكبيرة في حفظ وصون التراث الكويتي الأصيل وتدوينه ونشره.
بقلم: الدكتور وليد حمد السيف
خبير معتمد من اليونسكو لصون التراث الثقافي غير المادي