- الشاعر النكري يوثق إباء أهله وسيادتهم وحمايتهم لمن يلوذ بهم ونيلهم المكانة العليا
- الشاعر بن أرقم ينحر كبشاً كان في حماية النعمان بن المنذر ونظّم قصيدة بين يديه ونال العفو
- الشاعر العنبري كان شجاعاً لا يبخل على ضيوفه ولا يتأخر عن الدفاع عن عرينه وحياضه
- الشعر الحديث في الكويت لا يخرج عن سلوك مسالك الشعر العربي القديم بل هو امتداد له
- الشاعر عبدالمحسن الرشيد غنى للكويت وربيعها وأنشدت له فيروز «مرحباً عيد بلادي»
بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم
الشعر العربي - في قديمه وحديثه - يغري المرء بالمتابعة، ويمتعه بما يضم من معان وأساليب، وهذه عودة إلى المسامرات على الطريقة التي سرنا عليها في حلقات سابقة لكي ننظر في نوع آخر من أنواع هذا الشعر.
ومما سوف يتبين لنا هنا أن الشعر العربي لصيق بالحياة، معبر عن أحوال الناس، ولذلك فقد شاع عن الشاعر أنه مرآة لعصره، ومصور لأحوال مجتمعه. وسوف نستعرض - فيما يلي - قصائد تدل على ذلك، وتوضح صورة المجتمع العربي القديم من خلال ما وردنا من شعر.
***
يعتز العربي بأهله، ويحرص على صيانة كرامته، ويعبر - دائما - عن حفظه لكيان مجتمعه الذي يعيش فيه، ويرد على كل من يتعرض بالسوء عليه أو على قومه بالقول أو العمل.
أول من نختار من قصائده شاعر لم نجد له في المراجع المعروفة ما يدل عليه، ولكن الأبيات التي وردت له في كتاب «الأصمعيات» تدل على شاعر قوي الشعر، هو عبدالله بن جنح النكري، وهو من قبيلة عبد القيس المعروفة.
بدأ الشيب يغزو رأسه، فظن كل من رآه أن ذلك حدث بسبب كبر سنه، وبالتالي فإن قدراته سوف تتراجع، ولن يكون فيه خير لقومه، وكان أكثر من عاب عليه ذلك الفتيات اللاتي سخرن منه، وأشعرنه بأنه لم يعد مطمح أنظارهن.
فقال 7 أبيات هي التي وردت في الكتاب الذي أشرنا إليه، وفيها يفند زعمهن هذا، ويذكرهن بماضيه، وما كان يقوم به من مشاركات في الحروب أدت لكثرتها إلى أن يظهر عليهن ما يرونه فيه من شيب، وهو يزعم أن هذا ليس من علامات الكبر في السن، ولكنه علامة على الجهود التي بذلها في مكافحة - أعداء جماعته في الحروب التي كانت تدور لهذه الغاية.
وهو في شعره هذا لا يكتفي بذلك، بل إنه يميل إلى مدح أهله الذين ينتمي إليهم، ويذكر أنهم أناس يأبون الهوان، وأنهم سادة يأمن من يلوذ بهم. وبذلك اكتسبوا العزة، ونالوا المكانة العليا بين غيرهم.
وهم إن يطلبوا الثأر ممن نالهم بجناية يدركوا طلبهم ويقهروا عدوهم، فلا يقدر على إيذائهم. يقول:
زعم الغواني أن أردن صريمتي
أن قد كبرت وأدبرت حاجاتي
وضحكن مني ساعة وسألنني
مذ كم كذا سنة أخذت قناتي
ما شبت من كبر ولكني امرؤ
أغشى الحروب وما تشيب لداتي
أحمي أناسي أن يباح حريمهم
وهم كذاك إذا عنيت حماتي
من معشر يأبى الهوان أخوهم
شم الأنوف جحاجح سادتات
عزوا وعز بعزهم من جاوروا
وهم الذرى وغلاصم الهامات
إن يطلبوا بجريرة ينأونها
أو يطلبوا لا يدركوا بترات
ونحن نراه في هذه الأبيات وهو يرد على زعم الغواني (الفتيات) اللاتي قلن له إنه قد كبر، وأدبرت عنه كل الحاجات التي كان يزاولها.
ثم ضحكن منه زمنا وسألنه: منذ كم من السنين قد بدأت تدب على العصا لا تستطيع السير من دونها؟ ولكنني قلت لهم: إنني لم أشب بسببه مرور السنين، وطول العمر، ولكن الأحداث التي مررت بها هي التي شيبتني، في الوقت الذي لم يشب فيه أقراني المقاربين لسني ممن لم يخوضوا ما خضته من حروب كلها جرت بسبب اهتمامي بحماية أهلي حتى لا يتعرضوا للسوء من أي شخص كان.
وأنا أحميهم لأنني أرى فيهم حماتي إذا مسني، السوء أو تعرضت للأذى.
فأنا من جماعة (معشر) يأبى أي واحد منهم (أخوهم) الهوان والذل، فهم سادة كرام أعزاء، اعتزوا بأنفسهم، واعتز بهم من جاورهم.
لهم المكانة العليا فهم في الذروة بين الناس، وهم عنوان الاستقامة والشرف. وهم الذين إذا أرادهم عدوهم بثأر لم يدرك منهم مطلبا. وهكذا نرى أن الأبيات على قلتها تصور المجتمع الذي كان يعيش الشاعر في كنفه.
فهو واضح بين أفراد ذلك المجتمع بحيث يلفت النظر إلى حالة، وهو - كما وصف نفسه - بطل شجاع يدافع عن نفسه وعن قومه الذين وصفهم بأكمل الأوصاف.
وهذه قصيدة أخرى تحكى حكاية شاعر مرت به ظروف صعبة، ولكنه استطاع بشعره أن ينجو من تلك الظروف التي لم يكن غيره قادرا على تخطي ما كانت سوف تعرض من مشكلات منها أن يقتل من جراء فعلة قام بها، وذلك كما يلي: الشاعر هو علباء بن أرقم المنتمي إلى قبيلة بكر بن وائل، وقصيدته هذه التي نتحدث عنها واردة في كتاب «الأصمعيات» وهي تتكون من قسمين لكل قسم منها غرض مختلف، فالقسم الأول يشير فيه الشاعر إلى شكواه من زوجته التي زادت حياته اضطرابا بتصرفاتها معه، فهي - دائما - متقلبة بين الرضا والغضب، وتكثر عليه من التجريح حتى لقد عرفت جاراته بكل ما يصدر منها ضده، وفي هذا القسم يقول:
ألا تلكما عرسي تصد بوجهها
وتزعم في جاراتها أن من ظلم
أبونا، ولم أظلم بشيء فعلته
سوى ما ترين في القذال من القدم
فيوما توافينا بوجه مقسم
كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
ويوما تريد مالنا مع مالها
أفإن لم ننلها لم تنمنا ولم تنم
نبيت كأنا في خصوم عرامة
وتسمع جاراتي التألي والقسم
ثم يهددها قائلا:
فقلت لها إن لا تناهي فإنني
أخو النكر حتى تقرعي السن من ندم
ونحن نراه في هذه الأبيات وقد تحدث عن الضجيج الذي تحدثه هذه الزوجة التي تشبه أمثالها في لهجتنا بالنسره.
حتى يصل صوتها إلى الجارات فيسمعن قسمها المتكرر بأن زوجها قد ظلمها. وهو لم يظلمها، ولم يفعل معها ما يؤذي سوى أنها لاحظت عليه المشيب.
وهي متقلبة في شأنها هذا فيوما يراها زوجها جميلة زائغة كأنها الظبية وهي تمد عنقها نحو شجرة السلم لكي تأكل من أوراقها الخضراء في وداعة وهدوء، ويوما تريد أن تتسلط عليه، فتأخذ ما لديه من مال لكي تضمه إلى مالها، فإذا لم يستجيب لها فزعت إلى الصراخ حتى امتنع النوم عنها وعنه. فنبيت ليلنا وكأننا في خصومة شديدة، تطلق خلالها الأمان وتكررها حتى تسمع جاراتها ذلك.
ويقول الشاعر: لقد قلت لها إن لم تكفِّ عن هذا السلوك الشائن فليس من السهل على الصبر عليك، فإن لدى من الفطنة والذكاء ما يجعلك تندمين على ما فعلت.
وأما القسم الثاني من القصيدة، فإن الشاعر بعد ما انتهى من الحديث عن ذلك الذي يجري في بيته مما تفتعله زوجته من ضجيج، انتقل إلى الحديث عن صورة أخرى من صور مجتمعه، وهذه الصورة لها حكاية نسجت خيوطها في زمن حاكم عربي قديم هو النعمان ابن المنذر الذي كان حاكما في منطقة الحيرة، والحيرة مدينة وصفها ياقوت الحموي في كتابة «معجم البلدان» بأنها تقع على ثلاثة أميال من الكوفة، وكانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية، إلى زمن النعمان بن المنذر وآبائه، وبذلك فهي إلى الشمال من جزيرة العرب وكان لملوكها شأن عظيم، وقد زال ملك هؤلاء الملوك بما فيهم النعمان فيما بعد.
وبقي ذكر الحيرة بما اتصفت به من جمال البناء والطبيعة ومالها من تاريخ حتى لقد ذكرها الشعراء بعد دهر من خرابها، ومن هؤلاء الذين ذكروها الشاعر الشريف الرضي الذي مر بها في سنة 392 هجريا (1001م) فقال:أين بانوك أيها الحيرة البيضاء
والموطئون منك الديارا
والأولى شققوا ثراك من العشب
وأجروا خلالك الأنهارا؟
وكان حاكما حازما شديد الأحكام، ينفذ كل ما يريده أن ينفذ، ويحكم معاقبة من يخالفه.
وكان من ضمن هذه الأمور أنه أطلق كبشا له في البرية، ثم أعلن أن هذا الكبش في حماه فويل لمن يمسه بسوء، ولكن الشاعر علباء بن أرقم وثب على هذا الكبش عندما عثر عليه، ونحره ثم أطعم أصحابه من لحمه.
وعند بلغ خبر الكبش الذبيح إلى حاميه النعمان بن المنذر غضب أشد الغضب وتوعد الفاعل بأقسى العقاب. وطلب الشاعر حتى حمل إليه وأوقف بين يديه، وكان هذا موقفا له، ما جعل كل من يمت له بصله يمتنع عن مخاطبة النعمان يطلب العفو عنه.
وبمجرد أن وقف علباء أمام الملك حتى قال قصيدته التي عرج فيها على ذكر نحره للكبش مصورا كيف عثر عليه، فوجده قويا سمينا، فحدثته نفسه بذبحه، على الرغم من أن أصحابه أنذروه مغبة ذلك.
وقد ذكر لهم أن النعمان كريم اليد سخيا سمحا بكل ما لديه، وأنه بسبب استشعاره لذلك فقد أقدم على ما فعل، ولم ينس أن يصف فعلته كما حدثت مع افتخاره بإطعام صحبه من ذلك الكبش.
ومما يلاحظ أنه لم يقدم رجاء بالعفو، ولم يفصح عن نية في عدم العودة إلى مثل هذا العمل. ولكن النعمان بعد أن سمع شعره أقلع عن نيته في عقاب الشاعر بل وأكرمه لما بدا منه من حسن تخلص يقول:
وأي مليك من معد علمتم
يعذب عبدا، ذي جلال وذي كرم
أمن أجل كبش لم يكن عند قرية
ولا عند أذواد رتاع ولا غنم
يمشي كأن لاحي بالجزع غيره
ويعلو جراثيم المخارم والأكم
فو الله ما أدرى وإني لصادق
أمن خمر يأتي الطلال أم أتخم
ينكر الشاعر انه يخطر بباله أن هذا الكبش في حمي النعمان، فهو مطلق في الصحراء، ولم يكن في قرية، ولا بين جماعات ترعى من الإبل والغنم.
وهو يمشى وكأنه الوحيد في منعطف الوادي لا أحد سواه، ويعلو على المرتفعات لا يأبه بأحد، ودون أن أدرى - يقول - بصرت به في يوم كان فيه أصحابي في أشد حالات الجوع والشهوة إلى الطعام.
فقمت بإحضار حطب غليظ قوي، سهل الاستعمال لمن يشوي، وسكين قاطعة باتره، واستمر قائلا:
بذي حطب جزل وسهل لفائد
ومبراة غزاء يقال لها هذم
وزندي عفار في السلاح وقادح
إذا شئت أورى قبل أن يبلغ السأم
وقال صحابي إنك اليوم كائن
علينا كما عفي قدار على إرم
وقدر يهاهي بالكلاب قتارها
إذا خف أيسار المسابح واللحم
أخذت لدين مطمئن صحيفة
وخالفت فيها كل من جار أو ظلم
ويبدو أن ما بين البيت الثاني عشر والبيت الثالث عشر بيت ساقط أو أكثر لأنه كان ينبغي أن يقول إنني بعد ما بصرت به أمسكت به، وأحضرت الحطب بعد أن قمت بذبحه.
والبيت الخامس عشر ينبغي أن يكون بعد البيت السابع عشر، ولكن اختلاف الترتيب والنقص إنما هو من صنع الرواة لا الشاعر.
بعد هذا وصل الحديث الذي أراد علباء بن أرقم أن يسمعه النعمان فقال:
أخوف بالنعمان حتى كأنما
قتلت له خالا كريما أو ابن عم
وإن يد النعمان ليست بكزةولكن سماء تمطر الوبل والديموآب بعد ذلك هذا - مفاجأة - للفخر بما صنع، على الرغم من الموقف السيئ الذي هو فيه، فقال بذكر ذبحه للخروف:
لبست ثياب المقت إن آب سالما
ولما أفته، أو أجر إلى الرجميثير علي الترب فحصا برجلهوقد بلغ الذلق الشوارب أو نجم
إلى أن يمضى في وصف حجم الكبش، وتقطيعه وطبخه ذاكر انه وصحبه قد طعموا اللحم، وتركوا أكرعه ورأسه للذئب ولطيور الرخم.
ويؤكد في آخر بيت له أن ما صنعه من إطعام إنما هو تأكيد لميراث آبائه الذين اعتادوا فعل كل أمر كريم، وكانوا يقدمون على كل فعل عظيم.
ومعنى البيت الأخير أن هذا الخروف كان يضطرب برجله حين ذبحه ويثير التراب حول ناحره في الوقت الذي وصل فيه النحر (الزلق) إلى (الشوارب) وهي مجرى نفس، أو قرب منها.
وإذا أردنا أن نورد تعليقا على هذه الأبيات فإنها في حاجة إلى إعادة ترتيب، وإضافة ما نسي منها، وهذا هو ما سبقت الإشارة إليه.
وبهذه المناسبة، فإن كتاب الأصمعيات الذي يحتوي على اثنتين وتسعين قصيدة لم تسلم كلها من النقص والتقديم والتأخير.
وأذكر بهذه المناسبة ما درسناه عند شيخنا العلامة محمود محمد شاكر في أواخر خمسينيات القرن الماضي، فقد كانت له مجالس يحضرها عدد من محبي الاطلاع من بلدان مختلفة وكنا من الكويت أربعة أشخاص كاتب هذه السطور والأساتذة عبدالله علي العيسى وصالح عثمان عبد اللطيف العثمان وجمعة محمد ياسين، وقد قرأ لنا تسعا وعشرين قصيدة من هذا الكتاب، كان حريصا خلال درسه في إعادة كل قصيدة إلى أصولها بتعديل ترتيب أبياتها أو إضافة ما نقص منها.
وهذا واضح في كتابي: «قراءة في دفتر قديم» الذي ضم سجلا شاملا لكل هذه الدروس التي تمت في مجالس شيخنا رحمه الله، وأجزل له المثوبة.
وهذه أبيات أخرى تحكي حال رجل كريم شجاع، لا يبخل على ضيوفه، ولا يتأخر عن الدفاع عن عرينه، إنه الهذلول بن كعب العنبري، وهو شاعر قديم لم يذكر شيء كاف عن حياته لا بالتفصيل ولا بالإيجاز واسمه الهذلول ليس بغريب علينا، ففي الكويت أسرة كريمة أعرفها جيدا هي أسرة الهذلول، وهذا الاسم يدل على عمق انتمائها لأصلها العربي.
قدم على الشاعر بعض الضيوف، ونزلوا عنده، ولم يكن عنده طعام حاضر لكي يقدم لهم، ويبدو أن زوجته كانت في خارج البيت، فلم يتردد وجاء بالرحى وأخذ يطحن بها ما يمكن أن يصنعه للضيوف من طعام، وفي هذه الأثناء، قدمت الزوجة فرأته مكبا على الرحى يطحن أو يجرش ما يريد، فصرخت، ودقت بكفها على صدرها قائلة: أهذا هو زوجي الجالس إلى الرحى؟ فأراد الهذلول أن يخبرها بأن قيامه بهذا العمل لإكرام أضيافه، وهذا لا يخل بمكانته بصفته فارسا، يدفع عدوه، ويحمى قبيلته، ويقول - أيضا - فارسا إنه خادم لضيفه.
لأنه اعتاد على إكرام الضيف حتى ولو أدى ذلك إلى قيامه بإعداد الطعام لهم بنفسه ابتداء من الطحن والجرش بالرحى.
وهذه هي الأبيات التي تكاد تشكل حوارا بين الرجل وزوجته، وتبين حقيقة المجتمع العربي والذي كان تقوم على الكرم، كما يقوم على حماية الأهل والذود عن الديار، والتحلي بكل خلق كريم:
تقول وصكت صدرها بيمينها
أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
فقلت لها لا تعجلي وتبيني
فعالي إذا التفت علي الفوارس
ألست أرد القرن يركب ردعه
وفيه سنان ذو غرارين نائس
واحتمل الأوق الثقيل وامتري
خلوف المنايا حين فر المغامس
إذا خان أقوام تقحمت غمرة
يهاب حمياها الألد المداعس
واقري الهموم الطارقات حزامة
إذا كثرت للطارقات الوساوس
لعمر أبيك الخير إني لخادم
لضيفي وإني إن ركبت لفارس
وإني لأشري الحمد أبغي رباحه
وأترك قرني وهو خزيان ناعس
وصفها لزوجها بأنه متقاعس تعني به أن يجلس جلسة الذي فيه قعس، والقعس هو دخول الظهر وبروز الصدر، وزوجها ليس كذلك ولكن جلسته أمام الرحى جعلته يبدو كما قالت زوجته. والأقعس بهذا المعنى لفظ دارج في لهجة الكويت يطلق على من يصاب بهذه العاهة.
أما زوجها فيقول: لا تعجلي علي، وتذكري أفعالي في الحرب حين تلتف الفوارس من حولي. ألا تذكرين أني أرد نظيري من الفرسان حتى يخر على وجهه صريعا، وقد تركت في جسده سنان رمحي.
وأنني احتمل أشد الأثقال عن قومي وأغامر باختراق الشدائد. وانني اذا جبن المقابل لي تقدمت تقدم الطاعن الشديد الطعين. وإني لحازم أقف في وجه الهموم حين تطرقني، ولا أعبأ بالوساوس حين تنتابني. وإني لأخبرك بأن طبعي الدائم هو أنني أخدم ضيفي إذا حل بي، وأنا أيضا فارس مغوار حين أركب فرسي.
وإني لأشترى الحمد فهو البيع الرابح الذي يبقى ذكرى وذكر أهلي وأولادي من بعدي، وأضرب وجه المتقدم إلي في الحرب حتى يخر خزيان لا حراك به.
وهكذا نرى هذه المرأة العربية وقد تلقت الرد المقنع من زوجها مما جعلها لا تنبس بنبت شفة بعد كلماتها الأولى، لأنها علمت أن حجة الزوج كانت بالغة وقاطعة.
***
ولا يخرج الشعر الحديث في الكويت عن سلوك مسالك الشعر العربي القديم، فهو امتداد لذلك الشعر حكمه حكم ما يجري في ميادين الشعر في الوطن العربي في وقتنا الحاضر.
وما دمنا قد ذكرنا حتى هذا الموقع آثر الحياة الاجتماعية العربية في آثار الماضين فإن من المهم أن نعرج على شعرنا في الكويت لنرى مدى انطباع صورة المجتمع على أشعار الكويتيين المعاصرين.
ومن أجل ذلك فإننا نختار واحدا من هؤلاء الشعراء الذين عرفتهم الكويت، وتتبع قراؤهم ما يبدعون من أشعار، فنختار من بينهم واحدا كان من أبرع هؤلاء الشعراء له شعر يشارك فيه أبناء وطنه، ويدعو فيها - إلى جانب أغراض الشعر الأخرى - إلى السير في الطريق القويم من أجل خدمة الوطن وإعلان مكانته.
هذا الشاعر هو أستاذي عبدالمحسن محمد الرشيد الذي غنى للكويت وربيعها، وأصدر شعره في ديوان نأمل في إعادة طبعه حتى يكون بين أيدي الناس ممن لم يسعدهم الحظ بمعاصرة هذا الشاعر الذي نشر شعره في صحف الكويت وشارك في الاحتفالات التي كانت تقام بها وسعد باستقلال البلاد - كغيره من المواطنين - فأنشدت له المغنية المشهورة (فيروز) أغنية لا تزال تتردد وهي التي تبدأ بقوله:
مرحبا عيد بلادي مرحبا
عدت فالدنيا نشيد وصبا
ما ترى الأيام قد باهت بنا
وبها هنا الزمان العرباومنها قوله:أيها السائل عن أمجدانا
نحن ما شئت سماحا وإبا
في ربا الجهراء من تاريخنا
صفحة فاقرأه في تلك الرباوله مشاركات كثيرة لعدد من الشعراء، وتبادل للشعر في المناسبات التي تجمع الأصدقاء منهم ولا ننسى ما تبادله مع الشاعرين فهد العسكر وعبدالله زكريا الأنصاري من أشعار.
ولد في اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس لسنة 1926، ودرس لدى المدارس الأهلية، ثم التحق بعدة دورات تربوية.
وكان قد بدأ عمله في سلك التدريس في سنة 1923م بالمدرسة الأحمدية وانتقل بعدها في سنة 1943م إلى العمل بالمدرسة القبلية. وفي سنة 1956م انتقل إلى ديوان دائرة معارف الكويت وصار مراقبا فنيا لقسم وسائل الإيضاح، وصار في سنة 1965م مدير لدائرة الوسائل التعليمية بوزارة التربية.
ولقد شارك في تأسيس نادي المعلمين، وفي عدد كبيرة من الأنشطة الاجتماعية والثقافية، كما شارك في تأسيس رابطة الأدباء الكويتيين، وكان أمينها العام عند تأسيسها.
مثل الكويت في مؤتمرات كثيرة في المجالين التربوي والثقافي، وحصل على دبلوم في التربية وعلم النفس من بريطانيا، وبقي في عمله إلى أن تقاعد، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى في سنة 2008م.
ولما كان الديوان الذي صدر له في سنة 1972م يحمل عنوان: «أغاني ربيع» فقد رثيته بقصيدة كان مطلعها:
من ذا يغنينا أغاني ربيع
فقد أتى الدهر بخطب مريع
مضى أبو ماهر من بيننا
فانسكبت يوم الفراق الدموع
وعاودتنا حسرة مرة
منذ انتشار النعي بين الربوع
وفيها أذكر أيام الدراسة، وأيام العمل التي جمعتنا في وزارة التربية منذ سنة 1965م فقلت:
يا سيدي قد كنت لي رائدا
لا زلت أدعوك بحسن الصنيع
علمتني الحرف وآزرتني
في همة كبرى وعزم منيع
وقد مضت من دهرنا حقبة
نعمل فيها مالنا من هجوع
من أجل أجيال لها حقها
في أن ترى العمل إليها يشيع
ونتساءل الآن عن شعر الشاعر عبدالمحسن محمد الرشيد الذي يشير فيه إلى ما في مجتمعة كما فعل أنداده من الشعراء القدامي، فنختار له من ديوانه نموذجين فيها الدلالة على ما نريد.
أما النموذج الأول فهو ما جاء في قصيدة عنوانها: «الوساطات» وهو يعالج بها مرضا اجتماعيا اشتهر عندنا في زمنه ولا يزال يتفاقم مع مر الزمان.
ومعروف أن الوساطة التي يعنيها هي تلك التي تمنح للعاجز الفرصة التي يكتسب فيها ما شاء، وتحرم المستحق. وحولها نظم قصيدته هذه، ونشرها في مجلة البعثة، قبل أن يقوم بضمها إلى ديوانه. وقد بدأها بقوله.
دع عنك إنك من أهل الكفاءات
ما الفوز إلا لأصحاب الوساطات
هي المطايا التي يرجى الوصول بها
إلى منال مطاليب وغايات
كم جاهل مستفيض الخرق نال بها
بالسعي ما لم ينل أهل الدرايات
وينصح طالب الحاجة قائلا:
لا تقطع العمر سعيا في تطلبها
فالأمر أهون من جهد ومسعاة
اختر لنفسك ذا جاه ومنزله
وكلهم جاهل جم الحماقات
تنل على كتفيه ما طمحت له
من دوحة المجد أغصانا رفيعات
ويضيف إلى ذلك مخاطبا طالب الحاجة:
ماذا انتفاعك من علم ومن أدب
سوى اجتلائك أوضاعا أليمات
كم من أديب تراه رهن زاوية
وجاهل تحت إعلام ورايات
إلى أن ينتهي في قصيدته هذه إلى رفض القيام بهذا العمل، فهو لا يرضى لنفسه الوصول إلى ما يشاء اعتمادا على الوساطة:
يا صاح دعني فهذا المجد تنكره
روحي، وفكري وأخلاقي، وعاداتي
وقل لمن جروا الأوضاع غاشمة
وحملوا الشعب من جور وإعنات
إني أحذركم هوجاء عاتية
من غضبه الشعب لا تبقى على عاتي
***
ثم نأتي إلى النموذج الثاني من النماذج الدالة في شعر أبي ماهر على اهتمامه بأدواء المجتمع. وفي هذا النموذج الذي نظمه في أول يوم من شهر يناير لسنة 1953م عن ولادة ابنه ماهر.
نراه يتحدث عن العالم الذي جاء إليه هذا الوليد، فيبين أن الحياة جسر يعبره الناس دون أن يعلموا ما سوف يواجههم في طريقهم:
يجيئون من حيث لا يعلمو
ن، ليمضوا إلى حيث لا يعملون
وكل يقول كما يشتهي
فذرهم يقولون ما يشتهون
ثم يتحدث عن الأوضاع التي جاء في زمنها هذا الوليد فيوجه إلى قوله:
فيوجه إليه قوله:
بني أتيت إلى عالم
بنو الحق فيه هم الأضعفون
فللظالمين تقام القصو
ر، للمصلحين تقام السجونثم ينصحه:فكافح فدنياك دنيا الذئاب
يعيث كما يشتهي المفسدون
وكن (ماهرا) في اختيار الطري
ق، فما تاه في لجبها الماهرون
ويختم القصيدة ببيان مشاعر الأبوة، والفرح بهذا الوليد أن تجددت به حياة والده، فيعبر عن سعادته قائلا:بني وما أنت إلا أنا
أراك، فيرقص قلبي الحنون
وألثم فيك مناي التي
تباعدها عن مداي السنون
ستغدو فتي كالحسام الصقي
ل، ملء القلوب وملء العيون
أطالع فيك شبابي النظي
ر، إذا ما المشيب أتى بالغصون
فأعلم فيك بأني باق
إذا عصفت رياح المنونرحم الله أستاذي، وأسكنه فسيح جناته.
إلى هنا تنتهي هذه المسامرة، وهي الخامسة من المسامرات التي تيسر لنا تقديمها.
والأمل كبير في متابعة مثلها في مستقبل الأيام إذا سمحت الظروف، وتبين أنها قد رأفت لقرائها.