بقلم: حنان بدر الرومي
[email protected]
تمضي السنوات مسرعة.. جيل يسلم الأمانة للجيل الذي يليه.. أصبحوا ماضيا، كما أصبح الحاضر حاضرا، أما المستقبل فبعلم الغيب.. ولكن يظل لكل زمان أهله وحكاياتهم التي نسجوها.. منها ما كانت البسمة عنوانه وأخرى صاحبت الألم وبعضها عزفت بألحان المشاعر الإنسانية المتنوعة. سلسلة جديدة من الحزاوي ستأخذنا أحيانا للزمن الماضي بكل عبقه الجميل، كما ستحط بنا الرحال في وقتنا الحاضر لنروي حكايات أشخاص حقيقيين ومن جنسيات متعددة، منهم من رواها لي بنفسه والبعض، الآخر وصلني من المقربين منهم أو ممن عاصروهم.. حكايات متنوعة نستقي منها العبر والدروس التي لا تحصى.. وتظل الدنيا حكاية.
كنت منهمكة بقراءة بعض الأوراق في مكتبي عندما أحسست بأن هناك من يقف منتظرا عند الباب.. رفعت عيني فوجدت ياسين المراسل بطوله الفارع وجسده العريض ينظر إلي بقلق وصمت.. أذنت له بالدخول.. قدم لي طلب إجازة طارئة وطلب مني أن أوقعها لأنه سيسافر عصرا.. دققت بالورقة فلم أجد تاريخا محددا لانتهاء الإجازة.. طلبت منه أن يكتب التاريخ فصرخ بانفعال لم أعهده منه من قبل وهو الإنسان البشوش الرصين.. أخذ يضرب على الطاولة بقبضته ويصر أن أوقع من دون أي تحديد لانتهاء الإجازة.. استغربت عصبيته وصراخه وحاولت ضبط نفسي قدر المستطاع فأنا أعرفه منذ سنوات فهو مثال للإنسان المرح الهادئ الطباع النشيط في عمله.. إنه يبدو الآن كبركان يتأهب للانفجار.. قمت بتسجيل موعد لانتهاء الإجازة ووضعت قلمي على الورقة ثم سألته بهدوء تام عن سبب الإجازة.. أخبرني بأن والدته أدخلت للمستشفى وهي في حالة حرجة جدا.
أخذت أحاوره عن متاعب السفر المفاجئ وعن تربية الأمهات، عندها إنهار فجأه أمامي وأخذ يبكي كالطفل الصغير وقد احتقن وجهه.. وكأن حديثي قد فجر أحزانه المكبوتة فلم يعد قادرا على التماسك.. كان يمسح دموعه الغزيرة بطرف دشداشته.. حاول أن يواري وجهه عني ولكنه لم يستطيع فلقد غلبه النحيب.. جلس متهالكا على الكرسي الجلدي العريض وقد غطى وجهه بكفيه.. لقد كان مشهدا مؤلما للغاية فما أصعب دموع الرجال.. وكيف إن كان من يذرف الدموع السخية شخص دائم الابتسامة.. قدمت له بصمت علبه كلينكس وقنينة ماء.. مرت الدقائق ثقيلة حتى تمالك نفسه.
قلت له: يبدو أن حزنك قديم ومؤلم.
رد علي بعد أن أنهى شرب قنينة الماء وبدأ بإغلاقها: أستاذه أرجو أن تسامحيني.. لم أقصد أبدا أن أتصرف بهذه الرعونة.. ولكن كما قلت إنه حزن قديم جدا له أكثر من أربعين سنة.
اجتهدت في دعمه وطمأنته بالثقة بالله والتسلح بالدعاء.. ولكنه قاطعني وهو يقول بأسى: إن توفيت أمي فسأضيع أنا وأخي وعائلاتنا.
سألته: لماذا هذا التشاؤم.
أطرق برأسه وتنهد ثم قال: إنها قصة قديمة لا حل لها.
رددت عليه بثقة: إن شاء الله سيحلها ربك إنه على كل شئ قدير.. هل استطيع مساعدتك بشيء.
٭ ٭ ٭
استند إلى الكرسي ومسح حبات العرق المتناثرة على جبينه: إنك تخجلينني دائما ولكن لا يمكنك عمل أي شيء ـ صمت قليلا وسرحت عيناه في الفضاء ثم أغمضها لثوان.. فتح عينيه وزفر بعمق ـ وقال: حكايتي يا أستاذه بدأت منذ أربعين سنه كنت طفلا صغيرا لا يتجاوز عمره العام الواحد فأنا أصغر إخوتي الثلاثة الذكور.. أكبرنا كان في الرابعة عشرة من العمر.. كنا نسكن في منزلنا في البلد.. فنحن من أهل الصعيد.. والدي رجل ميسور الحال يملك أراضي زراعية ويعمل لديه العديد من الفلاحين.. أمي من قريبات والدي وهي زوجته الوحيدة ورزقها الله منه البنين والبنات.. كانت حياتنا جميله وهادئة.. حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم كان والدي يشرب شاي المغرب مع والدتي في بلكونة البيت عندما سمعا صوت حفيف الأشجار لم يعرا الصوت اهتماما في البداية.. ولكن الصوت بدا أكثر قربا ووضوحا.. صرخ والدي ليستفهم إن كان هناك أحد.. سمع الاثنان صوتا وكأن هناك من يركض مبتعدا.. صوب والدي بندقيته نحو الصوت وأطلق الرصاص.. كانت نيته إخافة صاحب الصوت ولكن للأسف اخترقت إحدى الرصاصات قلب فتى في السادسة عشرة من العمر وأردته قتيلا.. كان هذا الفتى ابن إحدى عائلات الصعيد المعروفة ولا نعلم حتى الآن لماذا تسلل بهذا الشكل داخل مزرعة بيتنا.. سعى جدي ووالدي وأعمامي لعقد صلح ودفع الدية ولكن العائلة المصابة رفضت أخذ العزاء كما رفضوا الصلح وتوعدوا بأخذ حقهم ولو بعد حين.
٭ ٭ ٭
عاشت عائلتي حالة من الترقب الممزوج بالتوتر من المجهول فمن سيكون ضحية الثأر.. بعد مرور أقل من عامين عثر على أخي الأكبر مقتولا ومرميا في الطريق.. كان قد بلغ السادسة عشرة من عمره قبل مقتله بثلاثة أشهر.. وبعده بعام قتل أخي الثاني بعد بلوغه السادسة عشرة أيام.. صحيح ان أصابع الاتهام توجهت نحو عائله قتيل والدي إلا أنه لا توجد أدلة على ذلك.
كان خوف أمي قويا من فقد بقيه أبنائها.. ارتدت الأم الثكلى السواد منذ ذلك اليوم ولم تخلعه حتى الآن.. كانت تفكر هل عدم إعلان العائلة الأخرى الفرح بأخذ الثأر هو بسبب رغبتهم في قتل جميع أبنائها.. لقد فجعت بقتل اثنين ولكنها لن تسمح بقتل البقية.. أخذت تفكر ماذا تفعل وما هو الحل؟
أما أبي فلقد أثقله الهم والحزن وامتلأ رأسه بالشيب وأصبح قليل الكلام ساهما يمشي مطرق الرأس حزينا.. بدا وكأنه شيخ في التسعين من العمر..
عندما يرخي الليل ستائر عتمته تزداد معاناة والداي فالذكريات تنطلق كسهام تتعب قلبيهما.. ذرفا أنهارا من دموع الحسرة والحزن والاشتياق والخوف مما قد يأتي به الغد..
تعرضت أمي لمرض في قلبها ونصحها طبيب المركز الصحي بمراجعة طبيب مشهور في القاهرة.. كانت حالتها تستدعي المتابعة الطبية فتكررت زياراتها للقاهره.. كانت في كل زيارة لها للقاهره تقيم عند أختها غير الشقيقه وهناك تشابكت خيوط حكايتنا.
٭ ٭ ٭
في أحد الأيام اختفى فجأة أخي رشيد ذو الإثني عشر عاما.. معظم أهل البلد شهدوا أنهم رأوه. هذا يقول إنه شاهده مع بعض الفتية وهم يلعبون..والآخر يقول إنه شاهده يحادث خفير العمدة.. الفلاحون شاهدوه وهو يرافق والدي داخل أرضنا الزراعية.. كان وقع الخبر على والدي صاعقا فسقط مغشيا عليه ولازمه جدي وأعمامي لأيام.. أما والدتي فخرجت كالمجنونة تبحث عنه في أنحاء البلد.. تفاعل جميع أهل البلد مع والدتي المكلومة.. مرت الأيام والسنوات ولم يعد أخي ولم تظهر جثته.
عندما أكملت الثامنة من عمري اختفيت أنا الآخر.. ولم يعرف أحد أين ذهبت وكيف ولماذا؟ ارتدى منزلنا السواد ولم يعد للفرح مكان فيه.. حتى في زواج أخواتي لم يرتفع صوت الدف ولم تطلق الزغاريد.
أنهى ياسين شرب القارورة الثالثة من الماء.. بدا واضحا أنه يعاني وهو يروي حكايته.. كانت المشاعر السلبية الحزينة التي بداخله تجعله يتصبب عرقا بقوة..
قلت له بهدوء: لم أقصد أبدا أن أفجر مخزون ذكرياتك المؤلمة.
يا سين: أبدا أستاذة.. إنني أعيش معها دائما.
رددت عليه بالقول: بصراحه شعرت كأنني أشاهد فيلما سينمائيا.
ابتسم بسخرية قائلا: وكيف إذا عرفت بقية الحكاية وكيف سارت بنا الأمور.
لم أعلق على ما ذكره كنت شديدة الحذر من الدخول في متاهات الحكاية مما قد يؤزم الأمور.. لقد أحزنني بكاؤه المتقطع.. لكن ياسين استرسل واستفاض في الحديث وكأنه يريد أن ينفس عما ضاق به صدره طوال سنوات عدة.
٭ ٭ ٭
قال ياسين: أدركت أمي أن ثأر العائلة الأخرى لن ينتهي إلا بقتل جميع أولاد أبي.. ونحن لا نستطيع الرد عليهم لأنهم لم يعلنوا لا صراحة ولا غمزا أنهم من قتلوا إخوتي.. ظل كل شيء في خانة التخمينات.. ولكن قلب الأم يخبرها بقصص مختلفة.. ناقشت أمي الموضوع مع أبي مرارا وتكرارا بلا جدوى.. لقد غلف الحزن أبى فبدا قليل الحيلة خائفا وكثير التوجس.. كانت أمي تذهب لمراجعاتها الطبية في القاهرة في أغلب الأحيان برفقة أصغر أخوالي وهو شاب متعلم سكن في القاهرة فترة من عمره.. وكانت علاقته قوية بأخته غير الشقيقة وزوجها.
شقيقة أمي التي كانت تستقبلها دائما في بيتها من أم من سكان القاهرة وكانت الزوجة الأولى لجدي.. رفض أهل جدي زواجه فطلقها بعد إنجاب ابنة واحدة.. وتكفل بالالتزام بالنفقة عليهما حتى زواج الابنة وهذا ما جعل علاقتها طيبة مع أهلها في البلد كانت تزورنا في المناسبات الكبيرة فقط.. تزوجت خالتي من تاجر جملة للخضراوات في سوق روض الفرج المشهور.. زوجها ميسور الحال وتسكن في فيلا كبيرة خصصت فيها جناحا لإخوتها.. في إحدى الجلسات العائلية في بيت خالتي أفضت أمي بمخاوفها واتفق الجميع معها بأن الثأر من عادات الجاهلية التي أبتلينا بها.. وبعد حديث طويل ومناقشات اقتنع الجميع برأي زوج خالتي والذي وضع الخطط وقام بكل الإجراءات والاتفاقات على أن يتم التنفيذ بعد موافقة أبي الذي لم يرفض بالطبع.
(يتبع في الجزء الثاني)