بقلم: حنان بدر الرومي
[email protected]
تمضي السنوات مسرعة.. جيل يسلم الأمانة للجيل الذي يليه.. أصبحوا ماضيا، كما أصبح الحاضر حاضرا، أما المستقبل فبعلم الغيب.. لكن يظل لكل زمان أهله وحكاياتهم التي نسجوها.. منها ما كانت البسمة عنوانه وأخرى صاحبت الألم وبعضها عزفت بألحان المشاعر الإنسانية المتنوعة.
سلسلة جديدة من «الحزاوي» ستأخذنا أحيانا للزمن الماضي بكل عبقه الجميل، كما ستحط بنا الرحال في وقتنا الحاضر لنروي حكايات أشخاص حقيقيين ومن جنسيات متعددة، منهم من رواها لي بنفسه والبعض الآخر وصلني من المقربين منهم أو ممن عاصروهم.. حكايات متنوعة نستقي منها العبر والدروس التي لا تحصى.. وتظل الدنيا حكاية.
الكويت 1946م..
الأحياء الطينية لمنطقة شرق.. داخل السكة.. الصبية يلعبون المقصي والتيل ويعلو صراخ البعض منهم وهم يلعبون إمشابك.. بينما الفتيات يلعبن الحيلة والصميمكة.. عالم من البساطة المتناهية لزمن هادئ.. يخرج سعود من بيته مسرعا وبيده بقشة ثقيلة يمسكها بكلتا يديه.. يتلفت حوله انه يعلم أنه تأخر قليلا ولكن ماذا يفعل ان والدته مصرة على أن يأخذ الخنفروش معه.. يا لرائحة الزعفران والهيل انها تناديه ليأخذ له مكانا ويخرج طاسة الخنفروش ويأكل منها حتى التخمة.. يسمع صوت فارس يناديه بحزم لقد قطع عليه نقاشه الذاتي وخططه البطنية.. يركض مسرعا باتجاه فارس الذي تنم نظراته عن الغضب.. يطل جاسم برأسه من أول العاير ويصرخ بصوت عال: أسرعا ان السيارة ستتحرك.. يركض الجميع باتجاه الصفاة حيث تنتظرهم سيارة الشركة.. يضع سعود البقشة على رأسه ويمسكها بقوة وهو يركض مسرعا.
٭ ٭ ٭
سيارة عمال شركة نفط الكويت تقطع البراري وقد تكدس الرجال والشباب بداخلها.. لم يعد العمل متيسرا كالماضي فاللؤلؤ الصناعي غزا الأسواق والظروف الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت صعبة على الجميع.. انضم الكثيرون للعمل في شركة النفط التي أضحت طوق النجاة لأهل الكويت فلم يعد للبحر جاذبيته القديمة للغوص أو للتجارة.. في موقع العمل توزعت الخيام الكبيرة وبدت للناظر وكأنها مصطفة مقابل بعضها حيث يستقر بداخلها العمال.. يبدأ العمل منذ الصباح الباكر بحثا عن النفط، الكل بانتظار اوامر المهندسين والتي ينقلها لهم المراقب.. تحت الشمس اللاهبة يشمر العمال عن سواعدهم لحفر الآبار ونقل الأدوات الثقيلة. نهمة البحر وغيرها من الأهازيج البحرية يترنم بها العمال في مواجهة الظروف الشاقة التي يعيشونها والتي تدعم العمل الجماعي الذي توارثوه.
٭ ٭ ٭
يتمدد سعود على سريره ليريح جسده المنهك من تعب النهار.. سيمفونيات الشخير تعزف ألحانا متنوعة من زملائه الذين يشاركونه النوم في الخيمة.. سكون الليل يجذب ذبذبات الاسترخاء فلا يرغب الشخص في ترك السرير، يغمض سعود عينيه ليداعب أحلامه الوردية.. يشعر بوخزة قوية في يده يفتح عينيه الناعستين يشاهد فارس أمامه.
يومئ له فارس برأسه وهو يقول بصوت خافت: اتبعني للخارج.
يترك سعود سريره بتملل شديد ويغادر الخيمة.
فارس بنبرة منخفضة: جاسم غير موجود بسريره.. انه متضايق ولم يتناول عشاءه معنا اليوم.
سعود: ماذا.. لقد كنت منشغلا مع المهندس في موضوع الحفارة ولم انتبه له.
يسحب فارس يد سعود ويسيران باتجاه خيمة الاجتماعات يشاهدان جاسم جالسا على الكرسي الخشبي العريض.
يصطنع فارس المرح: يبدو أن سكون الليل قد أثار مشاعرك.. أخبرنا أين ذهبت في فكرك لتترك لذيذ النوم.
يزفر جاسم بقوة ويقول: اه.. يا صاحبي ان في قلبي وجعا أقوى من النوم.
يقهقه سعود ويرد: هات ما عندك يا صاحبي فالليل لايزال في أوله.
يمد جاسم قدميه للأمام: لا يذهب تفكيرك بعيدا.. انني أشعر بالغضب من المراقب لأنه يزجرني دائما وأمام الجميع.. حاولت كثيرا أن أنفذ أوامره بحذافيرها لأنال رضاه ولكن بلا فائدة.
فارس: صدقت يا صديقي.. لقد لاحظنا ذلك ونستغرب ذلك منه بالرغم من تفانيك بالعمل.
بأسى يقول جاسم: اليوم وبخني أكثر من مرة على أمور تافهة كما صرخ علي بشدة وبلا أي سبب.. أشعر بأنه لا يطيقني.
٭ ٭ ٭
على ساحل البحر يجلس الثلاثة وقد غمروا أرجلهم بالتراب.. يستلقي سعود على ظهره ويغطي وجهه بالغترة.. ينظر له فارس وبمكر يرفع حفنة من التراب ويلقيها بسرعة على وجه صاحبه.
سعود لايزال بوضعيته: ابتعد عني.. أريد أن أستمتع برائحة البحر وبرودة الرمال قبل انتهاء اجازتنا الاسبوعية.
فارس: اياك أن تتأخر غدا كعادتك.. فلقد ازداد عدد العمال ولا نريد أن نجلس في أعلى السيارة.
سعود: ماذا أفعل بالوالدة انها لا ترضى الا أن آخذ زاد السفر معي – يضحك بصوت عال – انها تعتبر غيابي عنها سفرا يا للمسكينة.
فارس: أخبرها بأننا نريد خبز رقاق وسآتي في الصباح لأحمله معك.. وأنت يا جاسم ألن تعد والدتك لنا شيئا؟
يداعب جاسم حبات الرمال الناعمة بيده: أنا لن أرجع معكم للموقع.
يزيح سعود الغترة من على وجهه وبتعجب يقول: عسى المانع خير.
جاسم: لقد قررت ترك العمل في الشركة.. فلن أتحمل أسلوب المراقب معي أكثر من ذلك.
فارس: تمهل يا صاحبي.. ان العمل أصبح شحيحا والروبيات التي نتسلمها تنفع عائلاتنا.
يحرك جاسم التراب للأعلى: لقد فكرت كثيرا.. ولن أتراجع عن قراري والله الرزاق
يدرك سعود وفارس أن قرار صديقهما لا رجعة فيه.. يصمت الجميع.. ووسط الأفق الواسع تأخذهم الأمواج الساحرة لخواطر مختلفة تضطرب داخل نفوسهم.. يطول صمتهم الموحش وكأنه يبحث عن شواطئ الضياء.
٭ ٭ ٭
الوقت ضحى.. يخرج جاسم من منزله متأخرا.. يجر قدميه جرا ونفسه تمتلئ أسى.. لقد أصبح وحيدا الآن وصاحباه في طريقهما للموقع، كم هو مؤلم شعور الوحدة هكذا بدون أي تمهيد سابق.. مشى متثاقلا لا يعرف أين سيذهب.. عبر السكة الضيقة ورأسه للأسفل.. يسمع صوتا يناديه.. أخذ يحدث نفسه لعله يتخيل.. انه يعرف هذا الصوت جيدا.. رفع عينيه للأعلى ليجد صاحبيه جالسين على الدكة القريبة من زاوية مدخل الفريج.. يتسمر في مكانه.. ينظر مشدوها لهما.
يقول سعود بابتسامة واسعة وصوت مريح: اعتقدنا انك لن تغادر المنزل اليوم.
باستغراب تام يرد جاسم: هل فاتتكما سيارة الشركة؟
يضحك فارس بهدوء: لقد تركناها تذهب لطريقها ونحن معك لنا طريقنا.
بشيء من الشك يسأل جاسم: ألن ترجعا للعمل في الشركة؟
يحرك فارس رأسه يمينا وشمالا باشارة النفي.
بنبرة صوت واثقة يرد سعود: لا.. وهل نذهب ونتركك يا صاحبي سنعيش معا ونموت معا.
يمد جاسم يديه ويحضن صاحبيه بحب.. لقد عادت الروح لنفسه من جديد.
٭ ٭ ٭
سعود وجاسم وفارس حكاية رواها زمانهم الجميل لإخوة لا رابط دم بينهم.. علاقة بدأت منذ الطفولة فهم يسكنون في فريج (حي) واحد.. لعبوا مع صبية الفريج وضحكوا وتنافسوا.. درسوا عند نفس الملا وفرحوا لحفظ القرآن الكريم.. شقاوة متجددة مع كل اشراقة شمس.. يحكي البحر الكثير من قصصهم التي حدثت عند ساحله.. وتحكي الدروب خطوات مشوها معا صبية وشبابا.. هم لا يعرفون لماذا التصقوا ببعض من دون بقية الصبية هل هي أطباع مشتركة أم تفاهم روحاني.. لكنهم يدركون انهم تشاركوا في الكثير من الذكريات والأحلام حتى أصبح كل واحد منهم كتابا مفتوحا للبقية.
٭ ٭ ٭
مرت الأيام وشعر الشباب بأن عليهم البحث عن عمل جديد ولم يجدوا أمامهم غير السوق.. أخذوا يطلبون العمل عند التجار.. وجد سعود عملا كبائع عند تاجر أقمشة رجالية.. وعمل جاسم عند تاجر خشب وعدة النجارة.. أما فارس فعمل مع سمسار للعقار وهو من يعرف في الكويت باسم الدلال.. كانوا يخرجون صباحا معا للسوق ويلتقون فترة الصلاة في المسجد وبعد انتهاء عملهم يرجعون معا لمنازلهم.. مرت الأيام والأشهر والسنوات ونضج الشباب أكثر وتمرسوا في أعمالهم.
طرح سعود عليهم فكرة أن ينفصل كل واحد منهم بعمل خاص به فلقد عرفوا أصول مهنهم واستوعبوا خفاياها.. تناقشوا وطرحوا مخاوفهم وتوقعاتهم.. اقتنعوا بعد حديث طويل برأي سعود فترك كل واحد منهم عمله وافتتحوا محال خاصة بهم.. بدأوا أعمالهم الخاصة بحماسة واجتهاد.. كانوا يدعمون بعضهم بعضا بصدق ومودة.
٭ ٭ ٭
بدأت الكويت الحديثة.. ظهرت المناطق الجديدة.. غدا الأصدقاء من التجار المعروفين.. أصبح لكل واحد منهم أسرته الصغيرة.. أما فارس فكان مزواجا وتزوج من أربع.. تشاركوا في فرحة زواج كل واحد منهم وفرحة قدوم الذرية.. كانوا يلتقون يوميا في السوق يجلسون معا ويتبادلون الأحاديث ويستشيرون بعضهم بعضا في الكثير من الأمور.. لم يبخل أي منهم بالنصيحة على الآخر.
في أحد الأيام اقترح فارس شراء عمارة مشتركة كاستثمار لهم جميعا بدلا من بقاء المال داخل الخزينة.. اقتنع الجميع بأن الاستثمار أفضل وسيلة لتحريك المال.. اشتروا العمارة التي عرضها فارس بحكم عمله وكانت أول أملاكهم.
٭ ٭ ٭
فوجئ سعود باحتراق محله وباقي المحلات المجاورة له في السوق بسبب تماس كهربائي.. في تلك الفترة كانت الثقة بالبنوك ضعيفة وكان التجار يضعون أموالهم داخل الخزائن في محالهم أو في البيوت.. صدم سعود بأن الحريق أتى على كل حلاله.. اعتصر قلب سعود بشدة فلقد رجع لنقطة البداية انه الآن لا يملك شيئا ولكنه مسؤول عن بيت وأسرة وعمال يريدون رواتبهم ماذا يفعل؟ جافاه النوم لأيام وليال قلب الموضوع من كل جوانبه.. وجد أنه من الصعب عليه أن يطلب من اخوته.. ذهب إلى جاسم ففارس في اجازة خارج الكويت.. طلب منه أن يشتري نصيبه من العمارة ليبدأ من جديد.. رفض جاسم ذلك وطلب منه أن يحضر لمنزله عصرا.. استغرب سعود الموضوع وحاول أن يضبط غضبه.
عندما وصل لمنزل جاسم استضافه بالترحاب وأكرمه ثم طلب منه أن يتبعه لداخل المنزل.. أدخله غرفته وأعطاه مفتاح الخزينة قائلا: افتح الخزينة وخذ من المال ما تشاء ولا أريد معرفة كم أخذت اعتبره مالك الخاص.
وقف جاسم عند الباب وترك سعود يدخل الغرفة ويفتح الخزينة بمفرده ويأخذ من المال حاجته.. ناول سعود المفتاح لجاسم وعندما هم بشكره أسكته صاحبه بلطف قائلا: ان كل حلالي ملكك فالمال يذهب ويعود ولكن اخوتنا باقية.
٭ ٭ ٭
لم يشعر أحد بمعاناة سعود حتى زوجته.. بدأ سعود بالعمل من جديد أعاد ترميم المحل واشترى بضاعة جديدة وبتوفيق من الله بدأت الأرباح تتزايد.. كان حريصا على تجميع مبلغ الدين وعندما استكمل المبلغ ذهب لصاحبه.. طلب منه جاسم أن يعيد المبلغ للخزانة كما أخذه.. استغرب سعود أن صاحبه لم يسأله عن قيمة المبلغ الذي أخذه وهل هو نفسه الذي أعاده.. قدر سعود مساندة صاحبه له في محنته وعدم تجريحه له واخفاء السر حتى عن فارس بعد رجوعه من السفر.
فتح الله الرزق على الأصدقاء وأصبحوا من كبار التجار.. كان فارس حريصا على نصحهما بالاستثمار بالعقار وعرض أفضل العمارات عليهما.. في أحد الأيام اقترح عليهما شراء أراض في منطقة سكنية جديدة ليكونوا قريبين من بعض.. استحسن الأصدقاء الفكرة واشتروا أراضي في منطقة واحدة ولكن منزل كل منهم في قطعة منفصلة.
٭ ٭ ٭
سلم جاسم تجارته لأبنائه وفضل الراحة والتفرغ لهواياته الخاصة، كان يفتح ديوانيته كل يوم بعد صلاه العشاء لكن سعود الذي تعود على صاحبه كان يصلي العصر يوميا في المسجد القريب من منزل جاسم ثم يدخل معه للديوانية ليشربا الشاي معا ويتجاذبا أطراف الحديث قبل مغادرته للسوق.. لم يمنعه الحر ولا الغبار ولا البرد والمطر من الحضور اليومي لصاحبه وفي الليل كان الأصدقاء يجتمعون في الديوانية مع الحاضرين.
٭ ٭ ٭
يمرض فارس ويدخل المستشفى يزوره صاحباه صباحا ومساء.. يتبادلون النكات والذكريات دائما.. يزداد المرض على فارس ويدخل العناية المركزة وصاحباه لا يتركان زيارته والدعاء له.. ولكن لكل أجل كتاب يموت فارس ويبكي صاحباه فراقه.. يجد الورثة بعد تقسيم التركة أن العمارة المشتركة الوحيدة بين والدهم وصديقيه لا تنفعهم فيفضلون بيع نصيب والدهم.. ما ان وصل الخبر إلى جاسم حتى اتصل بسعود وطلب حضوره.. في الديوانية يجلس الاثنان وحدهما.. يحدث جاسم صاحبه بأن ثروته الآن بيد أبنائه وهم لا يرون منفعة من شرائه لنصيب فارس وهو الان مريض ولا يتحمل الجدال معهم.. لذلك فهو يرى أن يشتري سعود نصيب فارس ولأنه يدرك أن ورثة صاحبهما الكثر سيطلبون مبلغا أكثر من القيمة الحقيقية فهو يعرض عليه شراء نصيبه أيضا بربع القيمة.
حاول سعود كثيرا مع جاسم ألا يبيع نصيبه لكن جاسم رفض بشدة خوفا من أن يتعرض صاحبه لنفس الموقف في حال وفاته.. يشتري سعود العمارة بالكامل ويحتفظ بها بنفس صورتها ويكتفي بالترميمات فقط وكأنه يعيد مشاعره القديمة عندما يراها بصورتها الأصلية.
٭ ٭ ٭
ينتقل جاسم إلى جوار ربه.. يبكيه سعود أياما وليالي.. يرفض العودة للسوق ويغلق المحل برغم كل محاولات أبنائه لتجديد نشاط المحل.. يبدأ الحزن بالزحف لسعود يرفض كل الدعوات من الأهل والمعارف لزيارة دواوينهم كان يقول ان الدواوين الآن لم تعد مريحة.. أصبح ملازما للمنزل يقضي وقته بالصلاة وقراءة القرآن وملاعبة الأحفاد.. طال العمر بسعود وهو محتفظ بصحته ما عدا الأمراض العادية.. ازداد توجهه للعبادة وذكر الله حتى وفاته.. في المقبرة يشارك أبناء صاحبيه ذريته وأحفاده في دفنه ولسانهم يلهج بأن يجمع الله الأصحاب في جناته كما جمعهم في الدنيا.
النهاية