- عشنا على الشموع بعد ضرب محطات الكهرباء.. وخلال التحرير رأيت العراقيين يهربون أمام عيني
- كنا نتقاسم «اللقمة» والأموال بيننا وهذا لم يقتصر على سُني أو شيعي أو بدوي أو حضري أو كبير أو صغير
- المستشار خالد الهندي فاجأني باتصاله يوم الغزو قائلاً: «لا تيجي المحكمة.. القوات العراقية دخلت الكويت»
- التجار كان لهم موقف مشرف وفتحوا أبواب محلاتهم وحملوا بضائعهم إلى منازل المحتاجين
- كانت هناك تضحيات كبيرة وجهود عظيمة بذلت من الدفاع المدني أو العمل العسكري والتعاون الاجتماعي
- الكويت تحررت بتلاحم أهلها في الداخل والخارج ووقوف العالم معنا نظراً للأعمال الخيرية لأهلها
- القوات العراقية تلقت أوامر بالقبض على أي شخص في الشارع ليكون لديهم أكبر عدد من الأسرى
- كنا نرى الطائرات العراقية والمدرعات تقصف بعنف في كل موقع بالكويت أثناء الاحتلال
- أفراد العدوان الهمجي كانوا يقتلون أهل الكويت للرغبة في سرقة «ساعة يد» أو شيء بسيط
أسامة أبو السعود
لم تكن أشهر الاحتلال العراقي الغاشم مجرد فترة سوداء على الكويت، بل كانت بقسوتها وبشاعتها أكبر من أن توصف في مرارتها على كل من أحب هذه الأرض الطيبة، أمام طعنة الغدر والنكران في فجر الثاني من أغسطس عام 1990 من المقبور صدام حسين، الذي لم يجد لوشائج الأخوة والجيرة والنسب والدين والعروبة أي رادع عن مخططه الدنيء لاستهداف كيان وسيادة الكويت، محاولا محوها من خارطة العالم وضمها إلى العراق، فأطلق العنان لزبانيته وجنوده ليمارسوا كل فنون الوحشية على أرض الكويت الطاهرة، ويرتكبوا أبشع صور التعذيب والسرقات والتخريب بوطننا الغالي، لكن بفضل المولى عز وجل، ومع الالتفاف خلف قيادة حكيمة من أسرة آل الصباح، وبالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة، عادت الكويت حرة أبية عزيزة مستقلة. وفي شهر التحرير، شهر الأعياد الوطنية، حرصت «الأنباء» على الغوص في ملف تلك الفترة العصيبة، بمجموعة من اللقاءات الخاصة مع شخصيات كويتية كانت شاهدة عيان على محنة أهل الكويت سواء في الداخل أو الخارج، لنقدم صورة متكاملة عن كيفية تعامل الكويتيين مع تلك المحنة، وكيف تكاتف المواطنون خلف قيادتهم ليقدموا للعالم أجمع واحدة من أروع صور الولاء والانتماء، وليقوم كل منهم بدوره حتى علت كلمة الحق مدوية في وجه الطغاة، لتهب مختلف الشعوب إلى نصرة قضيتنا العادلة. شهادات حصرية من أصحابها نسترجع بها أصعب مرحلة مرت على تاريخ الكويت ولنأخذ منها العبر والعظات ولننتبه إلى أن تكاتفنا خلف قيادتنا السياسية سيظل سلاحنا القوي في وجه أي تحديات.
أيام لا تنسى وذكريات تستحق تخليدها رغم مرارة كل لحظة فيها، انها لحظات الاحتلال العراقي الغاشم الذي أطل على الكويت مثل ليل حزين، استمر جاثما على الصدور ما يزيد على 6 اشهر، ثم عاد النور ليسطع في ربوع البلاد بلحظات فرحة لا تنسى، انها لحظات التحرير حيث اكتست الشوارع بألوان علم الكويت وارتسمت الفرحة على وجوه أبنائها الذين ظلوا تحت هذا الحصار والاحتلال الجائر 6 اشهر، فما اقسى مرارتها، وما أجمل النصر وعودة البلاد لأهلها وشرعيتها. في هذا اللقاء، نستعيد مع وزير التربية والتعليم العالي والنائب السابق د.أحمد المليفي تلك اللحظات والذكريات حيث أكد انها كانت لحظات عصيبة وحزينة ومؤلمة، استيقظنا يوم 2 أغسطس قبل الساعة 8 صباحا لنفاجأ بالجنود العراقيين في الشوارع.
وقال المليفي: انها لحظات لا تنسى ولا يمكن ان تمحى من الذاكرة، فبيت الوالد آنذاك كان في منطقة الدسمة وكنا نسكن فيه، ومنه كنا نرى قصر دسمان ونرى الطائرات العراقية وهي تقصف بعنف كل موقع في الكويت، وكذلك الطائرات المروحية والمدرعات كل هذا كنا نراه بأم أعيننا.
يوم 2 أغسطس
واضاف المليفي: أتذكر انني كنت في ذلك الوقت اعمل محاميا وأمارس دوري في المحكمة، وفي يوم الخميس 2 أغسطس كانت لدي جلسة والقاضي الذي كنت سأترافع أمامه هو الصديق العزيز المستشار خالد الهندي والذي تفاجأت باتصاله صباحا قائلا لي «يا أحمد لا تيجي المحكمة، قلت له: إيش صاير؟! فرد بحسرة: القوات العراقية دخلت الكويت، فقلت له: انا اعلم انهم على الحدود، فرد قائلا: لا، انا كنت رايح المحكمة وردوني عند دوار الشيراتون»، وفعلا كانت لحظات مؤلمة ومحزنة ان يحدث هذا العدوان الغاشم من جار كنا نقف معه ونسانده وندعمه ان يغدر بنا بهذه الطريقة.
الوحدة الوطنية
وتابع: خلال فترة الاحتلال العراقي كلها كنا نعيش داخل الكويت، وبالفعل تلك الايام تجلت فيها وحدة الكويتيين الوطنية والتعاون والتعاضد فيما بيننا، كنا نتقاسم اللقمة والأموال بيننا وهذا لم يقتصر على سني او شيعي او بدوي او حضري او كبير او صغير، بل جميع ابناء الكويت لا تفرقة بينهم، فالجميع متعاون ومتعاضد، كما ان التجار كان لهم موقف مشرف حيث فتحوا ابواب محلاتهم وأعطوا بضائعهم وحملوها الى منازل المحتاجين اليها، وهناك تضحيات كبيرة على مستوى الشعب وجهود عظيمة من الجهات المختلفة من الدفاع المدني او العمل العسكري والتعاون الاجتماعي، ولو اسرد تلك الملاحم الرائعة احتاج لوقت طويل جدا، وهذه الملاحم التي جعلتنا نعيش في الكويت ونتصدى لهذا العدوان الهمجي الذي كان يقتل على الهوية، بل كان يقتل للرغبة في سرقة «ساعة يد» او غيرها من ابسط الأشياء.
فرحة التحرير
وزاد: بجانب هذا الجو المظلم الذي حدث يوم الخميس، هناك جو آخر من الفرحة والبهجة، فكما صحونا يوم 2 أغسطس على لحظات ألم ومرارة وحزن وقهر، استيقظنا يوم التحرير على فرحة غامرة ورأينا القوات العراقية تهرب امام اعيننا ومن بقي تم تسليمهم للقوات النظامية، وكانت فرحة جميلة جدا، حيث صعدنا اسطح المنازل نشاهد تلك الفرحة ونعيشها، وكان خلف منزلنا «ثكنة» عسكرية تستقر في مدرسة قتيبة بالدسمة والنادي العربي كان الاحتلال قد وضع عليه مضاد للطائرات ولكنهم هربوا وتركوا تلك الاسلحة.
وتابع المليفي: لله الحمد تم تحرير الكويت بتلاحم اهلها في الداخل والخارج ووقوف العالم معنا لأن يد الكويت الكريمة والرحيمة تحنو على كل ايتام وفقراء العالم، ولذلك فقد سخر الله كل هذه القوات لكي تعود الكويت وتعود شرعيتها، وتحرير الكويت حادثة تاريخية لم تتكرر، ولا اعتقد انها ستتكرر بأن يعود نظام وشعبه الى ارضهم بعد ان حاول النظام العراقي مسح هوية الكويت وقيادتها وشعبها.
23 فبراير
وحول أحداث ما قبل التحرير، قال: جاءتنا معلومات يوم 23 فبراير ان القوات العراقية تلقت اوامر بأن يلقوا القبض على أي شخص في الشارع ليكون لديهم اكبر عدد ممكن من الاسرى، فكانوا يقفون في الشوارع وأي بيت به حركة يقبضون على الرجال والشباب، فكان هناك رعب، مؤكدا انها اجمل لحظات عاشتها الكويت هي فرحة التحرير، مضيفا: نمنا تلك الليالي على الشموع طبعا لانه ليس هناك كهرباء ولا نفط بعد ان قصفوا آبار النفط، واستيقظنا صباح يوم 25 فبراير وسمعت اصوات «هرنات» السيارات، وصعدت اعلى البيت وانا انظر ماذا يحدث وظللنا ساعة غير مصدقين ان العراقيين يهرعون في الشوارع ويجررون ذيول الخيبة والهزيمة، واكتملت الفرحة بعودة سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد وسمو الأمير الوالد الشيخ سعد العبدالله، رحمهما الله، وعودة الكويت لأهلها الطيبين بفضل الله.
قتل لأبسط الأمور
خلال اللقاء سرد المليفي تفاصيل حوار اجرته معه مذيعة اميركية قائلا: بعد التحرير سألتني مذيعة من قناة فضائية اميركية: كيف تفسرون الوضع خلال فترة الغزو؟، فقلت لها: لن استطيع ان افسر تلك الايام التي عشناها في رعب، فكنا نخرج من بيوتنا صباحا ولا نعرف هل سنعود لنرى اولادنا وعائلاتنا من جديد ام لا، فقد كان الامن والامان مفقودا، فكان المواطن الكويتي يمكن ان يموت لأي سبب مختلق من جندي عراقي، فحينما كنت اخرج صباحا كنت انظر الى اولادي وزوجتي نظرة وداع بأنني ربما لا ارجع اليهم ثانية، ولذلك فقد تكون تلك النظرة هي النظرة الاخيرة، فقط لأنك لم تعجب الجندي العراقي عند السيطرة او اراد ان يسرق سيارتك او ساعتك، وبالفعل ايدتني المذيعة الاميركية بأن تلك لحظات مرعبة.
الأمن والأمان
وشدد على اهمية الامن والامان باعتبارها اساس أي تقدم وازدهار بالقول: حينما نتكلم اليوم عن الامن والامان واستقرار البلد نعرف معنى وقيمة الامن والامان وخطورة ذهابها، فنرى ذلك في دول اخرى فقدت الامن والامان ولكننا عشنا تلك اللحظات العصيبة اثناء الاحتلال، ولذلك فحينما نتمسك بالامن والامان ونتجاوز عن كثير من الاخطاء فقط من اجل الامن والامان لأننا نعرف قيمة ذلك.
جمع القمامة
وطالب المليفي خلال اللقاء بضرورة اعطاء الشباب الكويتي الفرصة، مؤكدا ان هذا الشباب ان وجد الفرصة الحقيقية لاثبات ذاته وكفاءته فسيبدع، وأضاف: قبل الغزو كانت لدينا مجموعة من الشباب كما نقول فيهم «شيطنة» شوي، المهم انه وبعد 3 أو 4 ايام من الغزو وهروب الكثير من العمال في الكويت بدأت الزبالة تملأ الشوارع، فقام هؤلاء الشباب انفسهم والذين كان معروفا عنهم الشقاوة كانوا يقودون سيارات البلدية وينظفون الشوارع ويجمعون القمامة من الشوارع والبيوت. وتابع: هؤلاء هم شباب الكويت، فالخير بداخلهم، ويمكن استنهاض تلك الهمم به ولا نقسو عليه ونظلمه، وعلينا كمسؤولين وكدولة ان نهيئ لهم الاجواء لتفعيل تلك الطاقات الايجابية والعطاء والبذل.
بن نخي يستحق تمثالاً من ذهب
الكثير من التفاصيل التي لم تأخذ حقها من الذكر والمواقف التي تستحق التخليد خلال فترة الاحتلال الغاشم سرد المليفي خلال اللقاء احداها بالقول: في بداية الاحتلال تم توزيع تموين الجمعية على الاسر والعوائل، فجابوا لي «خيشة» طحين فقلت: شنو اعمل بها؟! فأعطيتها جاري عبدالله بن نخي، رحمه الله، وقلت له انتم عائلة كبيرة تستخدمونها افضل.
وتابع: مرت الايام ووصلنا الى وقت القصف الجوي في شهر يناير تقريبا، وكان الوقت برد ومطر شديد، وكما ذكرت كان بجوار بيتنا محطتان للقوات العراقية في المدرسة والنادي العربي، وفي تلك الاجواء جاع اولادي ويبون اكل، فذهبت واحضرت كل الاكل موجودا من الاجبان والحليب وغيره ولكن ليس في بيتي أي خبز، فماذا اسوي؟! وأولادي صغار يبكون في سرداب البيت وانا ابحث عن خبز ولم اجد، وخلال الساعة 12 ليلا اذا بباب البيت يدق فخشيت ان يكون هؤلاء من الجيش العراقي ويريدون سرقة البيت او قتل من فيه.
وزاد: كان عندي مسدس ولكن ماذا افعل امام هؤلاء المجرمين؟ واستمر طرق الباب وصعدت اعلى الدور الثاني لانظر من يقف على الباب فاذا بي اجد جاري عبدالله بن نخي، فلما نزلت من سطح البيت وفتحت له وجدته جاء يحمل كيسا «متروس» خبز، فقمت واحتضنته وبكينا وقلت له: انت شلون عرفت ان ما عندي خبز؟ قال: اشفيك احمد، هذه زوجتي وجدت شوال الطحين اللي انت اعطيتنا اياه قامت وعجنته وخبزت الحين، وتذكرت انك من اعيطتني اياه، وقلت لازم تأكل خبز حار الحين مع ان زوجته، قالت: خليك للصبح لكنه اصر على ان آكل من الخبز في تلك اللحظة، وجازف بحياته وسط المخاطر وانتشار العراقيين في كل مكان.
واستطرد: هذا مشهد لا انساه من اخي وجاري عبدالله بن نخي الذي استشهد ابنه خلال الغزو الغاشم وقبل ان نعرف الخبر ذهبنا لنسأل عنه في كل مكان ووجدنا جثمانه في ثلاجة مستشفى مبارك حيث كان مضروبا بـ «الدريل» وجسده ممزق من كثرة الرصاص والتعذيب ولم يتعرف عليه والده الا من خلال اصابع يده، فسبحان الله صبر عبدالله بن نخي، يرحمه الله، الذي يجب ان يوضع له تمثال من ذهب، فبعد العثور على جثمان ابنه الشهيد بيومين فقط كان يقف معنا في الجمعية نوزع الاكل على اهل الكويت، وكان رجلا كبيرا وكان يضع الاموال في جيبه ويوزع على العوائل المحتاجة وتعرض للمخاطر الشديدة، وهو خير تجسيد لاهل الكويت وعطائهم في تلك الايام بعيدا عن أي طائفية او قبلية.