- لا يجوز تحميل القاضي دون غيره تبعات الخطأ وإرهاق كاهله والأجدر مجازاته وظيفياً وليس تحميله تعويضاً يصل إلى الملايين
- 14 ملاحظة فنية تعيب القانون.. ولسنا ضد المساءلة ولا نعترض على تقرير حق التعويض للمتضرر من القضاء
- القانون يخل بمبدأ تدرج الأحكام وقاعدة «الحكم الصادر من محكمة أدنى يطعن عليه أمام محكمة أعلى»
عبدالكريم أحمد
طالب وكلاء ومستشارو محكمتي التمييز والاستئناف ووكلاء وقضاة المحكمة الكلية السلطة المختصة برد قانون تعديل قانون المرافعات، والذي أضاف باباً لمخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة.
وقالوا في مذكرة منفصلة تضمنت عددا من الملاحظات «إن الفلسفة التي تقوم عليها فكرة المخاصمة أصبحت من الماضي غير النافع لما جره على الدول التي جربته من مساوئ لا حصر لها»، داعين الى «استبدالها بنظام متحضر يحفظ من جهة للقضاء هيبته واجتهاده، ويحفظ حقوق المتقاضين من جهة أخرى».
وفيما يلي رد وكلاء ومستشاري محكمتي التمييز والاستئناف ووكلاء وقضاء المحكمة الكلية.
السيد رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقضاء المحترمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،
كما يعلم حضراتكم فقد أقر مجلس الأمة الموقر بتاريخ 17/6/2020 المداولة الثانية تعديل قانون المرافعات بإضافة باب لمخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة، ولقد تسنى لنا الاطلاع على هذا القانون فكان لنا عليه بعض الملاحظات الفنية التي نطرحها على حضراتكم.
ونود في البداية ان نشير إلى أننا لسنا ضد مساءلة القاضي أو عضو النيابة فهي مقررة أصلا من خلال الدعوى التأديبية المنصوص عليها في قانون تنظيم القضاء، والتي لا تستثني أحدا منهم ولا تقف عند درجة أو مسمى معين، وهي مساءلة مشددة يتجاوز حدها السلوكيات العامة لأعضاء السلطة القضائية، فكم من قاض أو مستشار أو عضو نيابة تم عزله أو اجبر على الاستقالة لمجرد قيامه بسلوكيات لو قام بها غيره لاعتبرت تصرفات شخصية لا اثر لها على وظيفته.
وهي مساءلة رغم شدتها، إلا أنها واجبة القبول بسبب أهميتها لضبط مهنة القضاء فنيا وسلوكيا - وهي أيضا لا تشكل محلا لاعتراض رجال القضاء والنيابة العامة، ولكن ما يشكل الاعتراض هو جعل تلك المساءلة قيدا على عمل القاضي وسيفا مسلطا على رقبته كما سنبينه لاحقا، إضافة الى انه لم يقل احد من القضاة انهم معصومون من الخطأ وانه لا يجوز تخطئتهم، فالواقع يشهد على عكس ذلك، فهذه أحكامهم القضائية يجري يوميا الطعن عليها أمام المحاكم العليا، والتي قد تؤيدها أو تلغيها دون أي اعتراض من القضاة أو ضغينة بل على العكس يتم قبولها بصدر رحب وتستمر العلاقة الطيبة والمتميزة بين بعضهم البعض على اختلاف درجاتهم.
كما أننا نود ان نشير أيضا إلى أننا لا نعترض على تقرير حق التعويض للمتضرر من القضاء، بل اننا بالعكس نرى انه تقرير مستحق متى توافر ركن الخطأ.
ولكننا نرى بالمقابل انه لا يجوز ان يحمل القاضي دون غيره تبعات هذا الخطأ بحيث ترهق كاهله، سيما وأنه خطأ غير عمدي ومحله - ان ثبت - مجازاة القاضي وظيفيا وليس تحميله قيمة التعويض والذي قد يصل إلى الملايين.
أما عن الملاحظات الفنية فهي كما يلي:
أولا: إخلاله بمبدأ حجية الأحكام.
اذ لم يقتصر القانون على الحكم بالتعويض بل نصت المادة (٣٠٥) منه على الحكم ببطلان التصرف أي (الحكم). والنص المذكور لم يجعل بطلان الحكم لأسباب إجرائية كعدم انعقاد الخصومة أو إغفال إجراء جوهري كما هي حالات البطلان.
وإنما جعل منها حالة الخطأ الجسيم. والتي تتطلب ان تقوم المحكمة المرفوع لها دعوى المخاصمة من جديد بإثبات خطأ الحكم الذي اصدره القاضي المخاصم. بالرغم انه اصبح نهائيا وله حجيته ولا يجوز الطعن عليه.
ثانيا: إخلاله بمبدأ تدرج الأحكام، وقاعدة «ان الحكم الصادر من محكمة أدنى يطعن عليه أمام محكمة أعلى».
حيث انه وبعد ان نصت المادة (٣٠٦) من القانون على ان رفع هذه الدعوى يكون أمام محكمة الاستئناف، نصت المادة (٣١١) على حقها بالحكم ببطلان التصرف (أي الحكم)، رغم انه ربما يكون صادرا من محكمة اعلى كمحكمة التمييز، فكيف يمكن لمحكمة أدنى ان تراقب محكمة أعلى وان تبطل حكمها لأسباب موضوعية؟.
ثالثا: إخلاله بحصانة القاضي.
فقد نصت المادة (٣٠٨) على سماع أقوال القاضي المخاصم أو عضو النيابة العامة عن وقائع جنائية مثل جريمة التدليس المنصوص عليها بالمادة (٢٣٧) من قانون الجزاء.
وذلك دون اشتراط أخذ موافقة مجلس القضاء على رفع حصانته حسبما نصت عليه المادة (٣٧) من قانون تنظيم القضاء.
رابعا: إدانة القاضي أو عضو النيابة بتهم جنائية بغير الطريق الذي رسمه القانون.
حيث نصت المادة (٣١١) على الحكم على القاضي بالتعويض وذلك دون الإخلال بالمسؤولية الجزائية والتأديبية - أي انها تسمح بإدانة القاضي بتهم جنائية قبل صدور حكم جزائي. مما يطرح سؤالا منطقيا ماذا لو حكم القاضي الجزائي للقاضي المخاصم بعد ذلك بالبراءة؟
خامسا: لم يعالج القانون حالة تعدد القضاة الذين اصدروا الحكم. ولا مخاطر الكشف عن سرية المداولة.
إذ من المعلوم ان بعض الأحكام تصدر من دوائر ثلاثية أو خماسية. وغالبا لا يعرف المخاصم من أوقع الخطأ فيخاصم الدائرة كلها فإن كتم القاضي سره لحقه التعويض دون ذنب.
وان أفشى سر المداولة - فربما - يكون قد كشف ما يجب ان يستر. كما انه من جهة أخرى يكون قد خالف المادة (٢٨) من قانون تنظيم القضاء رقم 23/1990 المعدل والتي تنص على انه (لا يجوز للقضاة إفشاء سر المداولات) مما قد يعرضه للمساءلة.
سادسا: تعارضه مع نصوص الرد الواردة بقانون المرافعات.
حيث نصت المادة (٣١٠) من القانون على ان يكون القاضي أو عضو النيابة غير صالح لنظر الدعوى أو المشاركة في التحقيق وذلك من تاريخ الحكم بقبول دعوى المخاصمة شكلا، في حين انه إذا كان الحكم قد صدر فعلا فلا محل لإعمال هذا النص، وان كان لم يصدر فمحله دعوى الرد والتي لها إجراءاتها الخاصة في هذا الشأن.
سابعا: قصور المادة (٣٠٩) من القانون.
حيث انها نصت على تشكيل دائرة لنظر دعوى المخاصمة من اقدم خمسة مستشارين من محكمة الاستئناف، وذلك دون ان تربط تخصصاتهم بنوع الدعوى المخاصم عليها القاضي، مما يتصور معه ان تشكل كلها من قضاة الجنائي وهي قضية مدنية أو العكس، مما يترتب عليهم ترجيح عدم وصولهم للنتيجة الصحيحة بسبب ذلك، وبالتالي الوقوع بالخطأ من جديد.
ثامنا: إخلاله بمبدأ لا سلطان على القاضي في قضائه المنصوص عليها بالمادة (١٦٣) من الدستور.
ذلك انه بإعطاء المتخاصمين أمام القاضي الحق في مخاصمته مستقبلا بعد إصداره الحكم. وجره الى المحاكم هذه المرة ليس كقاض بل كخصم من الخصوم ومطالبتهم بالحكم عليه بالتعويض، ما يفتح المجال واسعا للخصوم بالتأثير على حكمه وذلك من خلال التلويح برفع هذه الدعوى في حال الحكم ضدهم أو في غير صالحهم، وهو الأمر الذي قد يترتب عليه إدخال الخوف والروع الى قلبه مما قد يؤدي الى تردده في إصدار الحكم أو الميل فيه تحاشيا واتقاء لما قد يتوعده به الخصوم.
تاسعا: تعارضه مع طبيعة عمل القاضي القائم صلبها على الاجتهاد سواء في فهم القانون أو الواقع.
طبيعة عمل القاضي تتطلب منه البحث والاجتهاد قبل إصداره الحكم، مما يوجب الا يحاسب على النتيجة ولو أخطأ بها حتى لا يتخوف من الاجتهاد، لذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير الى حصول القاضي على الثواب من الله حتى لو اخطأ طالما انه اجتهد دون ظلم أو جهل، ولذا فان تسليط سيف المخاصمة على القاضي في حال الخطأ يؤدي الى جمود الأحكام وبعد القضاة عن الاجتهاد خشية الوقوع بالخطأ.
عاشرا: إخلاله بمبدأ المساواة المنصوص عليه بالمادة (٢٩) من الدستور.
حيث أشارت الفقرة الأولى من المذكرة الإيضاحية للقانون الى انه تم تشريعه اعمالا لمبدأ المساواة المنصوص عليه بالمادة (٢٩) من الدستور.
في حين انه بالاطلاع على قوانين الدولة نجد انها خلت من نص مماثل ينص على تحمل تابعي الدولة أو أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية مثل هذا الأمر.
احدى عشرة: استخدمت المادة (٣٠٥) من القانون في مخاصمة القاضي أو عضو النيابة العامة عبارة (في عمله) ولم تقل (في حكمه).
وهي كلمة فضفاضة تسع في معناها إمكانية مساءلته حتى عن أعماله غير القضائية مثل إدارته للتنفيذ أو إشرافه على الانتخابات وغيرها من الجهات التي ينتدب اليها - رغم أنها لم تقرر ذلك لمن يشاركه من تابعي الدولة.
اثنتا عشرة: ان كثيرا من الدول المتطورة قضائيا كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ابتعدت عن تشريع مثل هذا القانون لمجافاته لطبيعة الوظيفة القضائية. كما أن دولا ممن شرعته عدلت عنه الى قانون مسؤولية الدولة عن عمل القضاء - حيث يضمن المتضرر حقه ولا يضام القاضي.
ثالثة عشرة: ان تشريع مثل هذا القانون سيؤدي الى إرباك العمل القضائي. اذ انه سيدفع من جهة بالقضاة الى هجر العمل في الدوائر ذات المطالبات المالية الكبيرة (الدوائر التجارية والمدنية) والتي ترجح معها ان تأتي من ورائها دعوى المخاصمة. كما سيؤدي الى تباطؤ إصدار الأحكام نتيجة تردد القضاة في إصدارها خشية الوقوع بالخط
رابعة عشرة: إرهاق النيابة العامة وشل قدرتها على العمل
ذلك ان قانون المخاصمة ادخل ضمن الخاضعين لأحكامه أعضاء النيابة العامة، وأجاز في المادة (311) الحكم ببطلان تصرفاتهم بما يعني شمول قراراتهم سواء في حجزهم للمتهمين أو حبسهم أو قرارات الحفظ والإحالة وغيرها من القرارات، بالإضافة الى القرارات التي ينفرد بإصدارها النائب العام أو غيرها من القرارات التي يجوز فيها التفويض، كما أجاز في المادة (310) منه وقف عضو النيابة عن استمراره بالتحقيق، هذا بخلاف ما قرره من جواز الحكم عليه بالتعويض، ولما كانت قرارات النيابة العامة - بحسب طبيعة عملها - كثيرة ويومية فإن فتح الباب بجواز رفع دعوى المخاصمة سواء على أعضاء النيابة العامة أو النائب العام بشخصه باعتباره رئيسا على هذا الجهاز سيسبب في إرباك في عمل النيابة العامة وتعطيل العمل فيها، وهو ما سيؤثر مباشرة بتعطيل عمل جميع الجهات العدلية والضبطية المرتبطة بعمل النيابة العامة.
ختاما: من خلال العرض السابق نرجو ان نكون قد وفقنا الى بيان ان الفلسفة التي تقوم عليها فكرة المخاصمة أصبحت من الماضي غير النافع - لما جره على الدول التي جربته من مساوئ لا حصر لها، واستبدلتها بنظام متحضر يحفظ من جهة للقضاء هيبته واجتهاده، ويحفظ حقوق المتقاضين من جهة أخرى، ونرجو منكم نقل ملاحظاتنا سالفة الذكر للسلطة المختصة والتي نهيب بها رد هذا القانون للأسباب التي ذكرناها ولأسباب أخرى قد تكون أفضل.
واستبداله بقانون آخر يضمن من جهة للمتضرر من القضاء حصوله على التعويض. ولا يضير من جهة أخرى بالقضاة أو أعضاء النيابة العامة أو يؤثر على عملهم.
وكلاء ومستشارو محكمتي التمييز والاستئناف ووكلاء وقضاة المحكمة الكلية