أبو أيوب الأنصاري الذي استشهد على أبواب القسطنطينية وقد جاوز التسعين عاما هو خالد بن زيد بن كليب البخاري الخزرجي الأنصاري. من بني النجار (وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه). «وهو الذي شرفه النبي عليه أفضل الصلاة والسلام لدى هجرته الى المدينة المنورة بالنزول ضيفا في بيته لمدة شهر سعد خلاله بخير ما يسعد به إنسان في الوجود. ونال في تخليد الذكر ما لم ينله أهل الكرم والسخاء قاطبة» (د.محمد بكر اسماعيل: رجال أحبهم الرسول وبشرهم بالجنة: ص 231).
تروي كتب السيرة بإجماع أهل المدينة من الأوس والخزرج تسابقوا في استقبال النبي صلى الله عليه وسلم والحفاوة به والسعي لاستضافته. بل حاول البعض منهم قيادة ناقته الى بيته. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها مأمورة» ومضت الناقة في طريقها حتى بركت عند بيت هذا الرجل من بني النجار أخوال النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. ولم يكن ذلك غريبا، فأبو أيوب هو من أخوال النبي من ناحية. وهو من ناحية ثانية من السبعين رجلا الذين بايعوه بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة والنصرة والجهاد في سبيل الله.
إلى ذلك، كان أبو أيوب من خيرة الذين استقبلوا مبعوثي النبي صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم مصعب بن عمير اول رسول أرسله النبي لدعوة أهل المدينة وتفقيههم في الدين. وهو الذي فيما بعد آخى النبي بينه وبين مصعب بن عمير لما بينهما من تشابه في الخلق والسلوك.
وحين نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب وكان من طابقين عرض أبو أيوب على النبي ان ينزل في الطابق العلوي. ولكن النبي اختار الطابق الأول حتى يكون في متناول الزوار. وكان يحرص هو وأهله على ان يكونوا في مكان من المنزل لا يعتلي المكان الذي ينزل فيه النبي. ثم سال ماء في حجرته فسارع وزوجته يجففانه بقطيفة لديهما. ثم أعاد عرضه على النبي الذي استجاب له مقدرا هذا الحب الدافق والإيثار الجميل.
البحث عن الشهادة
منذ أن عرف أبو أيوب الأنصاري حلاوة الإيمان وهب قلبه لله ولرسوه ولدينه ونذر حياته لنصرة هذا الدين. ومن ثم كانت حياته سلسلة متصلة من المشاركات في كل المشاهد: «كان أبو أيوب سابقا الى مواطن الهول، باحثا عن الشهادة، يطلبها ويسعى إليها. وتألقت خطواته وضرباته في غزوات بدر وأحد والخندق وجميع المشاهد الأخرى. وكان شعاره في كل ذلك قول الله عز وجل: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) التوبة ـ 41.
وكان في كل مرة يتلو فيها هذه الآية وما أكثر تلاوته لها يقول عن نفسه: لا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. أي لابد لي من الجهاد على أي حال (رجال أحبهم الرسول وبشرهم بالجنة: ص 233)، مرة واحدة تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين لم يقتنع أبو أيوب بإمارته. مرة واحدة لا غير. ومع هذا فإن الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه ويقول: ما علي من استعمل علي؟ ثم لم يفته بعد ذلك قتال (خالد محمد خالد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم ص 254).
ظل أبو أيوب يلازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة الخادم لمخدومه، والجندي لقائده. وبعد ان لحق النبي بالرفيق الأعلى ظل أبو أيوب على عهده ذلك مع الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجاهد في سبيل الله حق جهاده. وحين وقعت الفتنة بين علي ومعاوية. وقف مع علي بلا تردد. ولما استشهد علي كرم الله وجهه وانتهت الخلافة الى معاوية «وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى ان يظل له مكان فوق أرض الوغى وبين صفوف المجاهدين» (رجال حول الرسول: ص 255).
وكان إلى جانب جهاده المتواصل حريصا على ان يتفقه في الدين فيتدبر كتاب الله ويكثر من تلاوته، ويسمع الحديث ويكثر في روايته، ويعمل بما يعمل على قدر طاقته في حياة وديعة صافية لم تعكرها فتنة من الفتن التي ظهرت بعد انقضاء زمن الخلافة، ولم تكدرها الشهوات الدنيوية التي عاقت الكثير من أصحاب النزعات الشخصية وطلاب الدنيا (رجال أحبهم الرسول: ص 234).
وكان دستوره ومنهاجه في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صليت فصل صلاة مودع، ولا تكلمن بكلام تعتذر منه، والزم اليأس مما في أيدي الناس» (رواه ابن ماجة).
تحقيق الحلم
وكان أبو أيوب يناهز التسعين عاما حين بدأ الإعداد للتحرك صوب القسطنطينية بقيادة يزيد بن معاوية. ورغم انه حارب في صف علي بن أبي طالب ضد معاوية فإنه بادر وسرعان ما جهز نفسه للقتال في سبيل الله. فركب فرسه واعتمر درعه وحمل سيفه وانضوى تحت راية الجهاد ولا يشغله شاغل إلا المشاركة في رفع راية الإسلام ونيل الشهادة التي تتوق لها نفسه ويهفو إليها قلبه وتسيطر على كل تفكيره.
واقترب أبو أيوب من تحقيق حلم الشهادة، فقد أصيب إصابة جسيمة، وكان في طريقه لأن يسلم الروح حين عاده يزيد بن معاوية قائد جيش المسلمين وسأله: ما حاجتك أبا أيوب؟
ولم تكن حاجة أبي أيوب حاجة شخصية ولا مطلبا فرديا، ولم يطلب علاجا، ولم يرغب في أن يرى احدا من أحبائه او ان يعود الى دياره، حيث يتوافر له العلاج والراحة، بل كان مطلبه يمثل أكبر حافز للمجاهدين. «لقد طلب من يزيد اذا هو مات ان يحمل جثمانه فوق فرسه ويمضي به أطول مسافة ممكنة في أرض (الروم) وهنالك يدفنه ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره. فيدرك آنئذ انهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز» (رجال حول الرسول: ص 255).
وقد أنجز يزيد وصية أو طلب أبي أيوب، فحمله الى حيث استطاع، وفي قلب القسطنطينية وهي اليوم اسطنبول، ووري جثمان رجل عظيم، جد عظيم، وحتى قبل ان يغمر الإسلام تلك البقاع كان أهل القسطنطينية من الروم ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قديس، وإنك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع يقولون: «وكان الروم يتعاهدون قبره ويزورونه ويستسقون به اذا قحطوا» (رجال حول الرسول: ص 255).
إن كلمات أبي أيوب الأنصاري: «اذهبوا بجثماني بعيدا بعيدا في ارض الروم، ثم ادفنوني هناك» بكل ما عبرت عنه من حب لله ولرسوله ولدينه وما أفصحت عنه من رغبة في الجهاد وشوق للنصر وتوق للشهادة كانت امتدادا لقيمة الإسلام.
وبالروح ذاتها التي عبر عنها ظلت أجيال المسلمين تترى وتحاول حتى جاء من استطاع ان يفك طلاسم هذه المدينة التليدة وان يروض عصيانها ومناعتها، وأن يفتح بفتحها آفاقا جديدة للإسلام، ومنذ فتحها وهي همزة الوصل بين قارتي آسيا وأوروبا، وبين الحضارة الإسلامية التي ازدهرت قرونا عدة وقادت الإنسانية، والحضارة الغربية التي تسود أو تحاول ان تسود وتسيطر على العالم الآن.
إن ارتفاع صوت الأذان في مساجد اسطنبول هو أفضل تحية لروح أبي أيوب الأنصاري ورفاقه الذين استشهدوا على مشارف أو أسوار القسطنطينية، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.