بقلم: أ.د.وليد محمد عبدالله العلي استاذ الشريعة والدراسات الاسلامية بجامعة الكويت وإمام وخطيب المسجد الكبير بدولة الكويت [email protected]
الله سبحانه وتعالى المسؤول المرجو الإجابة أن يتولاكم في الدنيا والآخرة، وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأن يجعلكم ممن إذا أنعم الله عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
فإن هذه الأمور الثلاثة: هي عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبدا، فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاثة.
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه، فقيدها الشكر، وهو مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها، فإذا فعل ذلك: فقد شكرها، مع تقصيره في شكرها.
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها، ففرضه فيها الصبر والتسليم، والصبر: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية، كاللطم وشق الثياب ونتف الشعر ونحوه.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام به العبد كما ينبغي: انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوبا، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته.
فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عليه عبودية في السراء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره، ففيه تتفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر: عبودية، والوضوء بالماء البارد في شدة البرد: عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين، فمن كان عبدا لله في الحالتين، قائما بحقه في المكروه والمحبوب: فذلك الذي تناوله قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده﴾.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد خيرا: فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك: فلا يلومن إلا نفسه.
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان، قال الله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا﴾.
ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلم عباده إليه، ولا يسلطه عليهم: قال تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20) وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ (21﴾.
فلم يجعل لعدوه سلطانا على عباده المؤمنين، فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه وتحت كنفه، وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل: فهذا لابد منه، لأن العبد قد بلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احتزر العبد ما احتزر: فلابد له من غفلة، ولابد له من شهوة، ولابد له من غضب. وقد كان آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم: من أحلم الخلق وأرجحهم عقلا وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيه، فما الظن بفراشة الحلم، ومن عقله في جنب عقل أبيه: كقطرة في بحر؟
ولكن عدو الله لا يخلص إلى المؤمن إلا غيلة على غرة وغفلة، فيوقعه ويظن أنه لا يستقيل ربه عز وجل بعدها، وأن تلك الوقعة قد اجتاحته وأهلكته، وفضل الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته وراء ذلك كله.