بمناسبة عيـدي الاضحى والميلاد أعادهما الله عـلــى الـجميـع بالخير والبركات، كتب المطران جورج خضر متروبوليت جبل لبنــان للـــروم الارثوذكس مقالة خاصة بـ«الأنباء» فيما يلي نصها:
الميلاد عند المسيحيين اطلالة الله على وجه مسيحه، يأتي من طهارة مريم للخلاص والتطهير واشاعة المحبة في الناس، والمسيح هو اياه في التعليم وصنع المعجزات والالم والفقر، يحيا المحبة بحيث لا يسقط منها شعرة في كلامه وتصرفه، وما كان سلوكه يختلف عن كلامه، وجعل المحتاجين والمرضى والمهمشين في الارض احباء له، لم يكن عنده ذرة من الاستعلاء اذ كان يعمل في كل حين ما يرضي الاب، اذ لم تكن له مشيئة من عند ذاته بل تلك التي تنزل عليه من فوق.
كان يعرف ان احدا لا يصعد الى الله الا اذا نزل من الله بالحب واقام فيه اذ يكون، عند ذاك، في حركة صعود دائمة، وتاليا ليس المعابد منزل في الارض، بسبب من ذلك كان يتوقع الاضطهاد وان يجليه بغض الاحبار عن سطح الارض، هنا لم يكن له موضع يسند اليه رأسه.
كان هذا منذ مولده، اذ وضعته مريم في منور للبهائم في بيت لحم، الموضع معتم والبرد شديد، لا شيء مثل هذا المشهد يدل على انه كان غريبا عن الدنيا، غريبا في الدنيا، كان يجوع من وقت الى آخر، اذ لم يكن له مورد في الارض، واذا اشتد عنده الجوع يطعمه اتباعه الاثنا عشر من السمك الذي يصطادونه في بحيرة طبريا، لكن كان لا بد له ان يتكلم لأنه كان واعيا انه جاء ليشهد للحق، ان تشهد في كل حين حتى اقسى الشدة في الكلام الى فرقة الفريسيين، ان تشهد باستمرار امام شيوخ الشعب وتعرض نفسك للموت، كان الدليل الساطع ليس فقط على انه لا يحابي، لكنه ينظر فقط الى وجه الله. هذا المسيح الحق، الشديد، من قبل ولادته من العذراء، قيل عنه في سفر اشعياء في العهد القديم «لا صورة له ولا بهاء فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه، مزدر ومتروك من الناس، رجل اوجاع وعارف بالالم، مزدر فلم نعبأ له، لقد حمل هو آلامنا واحتمل اوجاعنا، طعن بسبب معاصينا وسحق بسبب آثامنا، عومل بقسوة فتواضع ولم يفتح فاه، كحمل سيق الى الذبح كنعجة امام الذين يجزونها ولم يفتح فاه، وبسبب معصية شعبه ضرب حتى الموت».
هذا الالم ترجمه حنانا ورأفة بالعصاة «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»، حتى قال الشاعر «ولد الرفق يوم مولد عيسى» (احمد شوقي). كل هذا بصورة او بأخرى نقوله في هذا المولد الذي يفتتح مسيرة محبة لا تنتهي.
حل الاضحى في الزمن الميلادي، وتلاقيا في قلوب العابدين، الله لا يهمه نحر الخراف، لكن تهمه ذبيحة القلوب وطاعتنا على مثال طاعة ابراهيم. انت تنزل الى القلب وتنحر شهواتك وتتمم الفضيلة وتصبو بها الى فوق حتى لا يبقى فيك الا ما هو من الله.
والفقراء يسكنون اليك وانت لا تذبح الاضاحي الا لتشهد انك مريد ان تذبح معاصيك تقربا من الله وزلفى.
لن اغوص في مقارنة لاهوتية بين عيدين كلاهما متعلق بمعنى الذبيحة لله وكلاهما مرتبط بابراهيم، لكن يلفتني هذا التزامن بين الذكرى والذكرى، كأن للرب ارادة جذب المسيحيين والمسلمين في فترة واحدة من الزمن، ان تكون مشيئته في شد اهل التوحيد اليه واضح من رحمانيته وساطع برحمته، غير ان الصحيح ليس في تراكم الجماهير من كل صوب بلا تحسس ديني، لأن العيد هو ابتهاج المؤمن من كل صوب بحنان الله.
على مستوى عميق جدا من الصفاء والسماحة والفهم، يرى الله ان قلوب عبيده واحدة في الطهارة وانها دائما في ابتهاج بعطاياه، غير ان من شأن التزامن ان يصل بالتقوى الى اعماق النفس في الاقتراب الى الرحمة.
المهم في كل هذه الرحلة الروحية ان تدعو الله الى قلبك، وان تشعر في الحقيقة انك راغب في النمو الروحي والنقاوة والاستغفار عند المسلمين والمسيحيين معا، من بلغ في الحب الالهي مرتبة عليا يضم الى قلبه كل البشر في اي مذهب ذهبوا، واذا كان عندهم قيم مشتركة في الاخلاق وحاولوا اقتباسها عملا فيجعلهم ربهم في الدرجات العلى.
وان كان من قربى حارة بين المسيحيين والمسلمين فبالرغم من اطلاق هذا الكلام، احب ان اؤكد اننا نحن في بلاد العرب على قربى كبيرة تعززها لغة واحدة وآلام ذقناها واحدة من قبل الطامعين في هذه البلاد، الاصل في تمتين هذه القربى ان نحافظ على حرية كل شريحة ونفرح بما يفرحها ونحزن لما يحزنها ونكون قد احتللنا اعلى مقام في الغفران بين البشر وبلغنا الشفافية الكاملة وارتقينا يوما بعد يوم الى وجه الله الكريم.
وعسى ان يؤكد لنا العلماء ما يجمع وما يرفع نفوسنا الى الاعالي ونترك السجال ونزيل كل ما من شأنه ان يزيد الفرقة وايا كان زمن العيد ان نعيش كأننا في زمن واحد هو زمن النعمة الالهية والرضاء الالهي علينا.
جورج خضر
متروبوليت جبل لبنان
للروم الأرثوذكس