كبت أمي.. للأسف أصبح قولا من ضمن أبجديات حروف الفكاهة والتندر في التغطيات الإعلامية وفي الوسائل الالكترونية الأخرى، المقروءة والمسموعة والمرئية، على نطاق خصوصية حدود الكويت الداخلية، لكنها عندما تضخمت خرجت الى الملأ لنشاهدها على الفضائيات الصديقة والمعادية جنبا الى جنب، كفضيحة «كبتية» وأمي منها براء ككل الأمهات الرائعات.
وسائل الإعلام تلك، مرت على الأرصدة المليونية مرور الكرام، لأن هذه المسألة ليست جديدة على أصحابها، وعلى مليونيات أرصدتهم المتخمة، ولكن الجديد كان في كبت أمي، حين أدركوا ان أمهاتهم لم تضعن ولا مليون حبة غبار في كبتاتهن، حين فتحوها وجدوها نظيفة تماما، كنظافة قلوب كل الأمهات الطيبات.
عندما توفيت أمي ـ رحمها الله ـ دخلت الى غرفتها الصغيرة المتواضعة، نظرت في أرجائها المسكون بالصمت الرهيب، واقتربت من كبتها، وفتحته بيدي المرتعشتين، وإذا برائحة الأطياب وعتق الأخشاب تنتشيني، وترد الروح الى الروح، ونظرت الى أشيائها، فوجدتها كما عهدتها، على وضعها، مرتبة بعناية، ونظيفة للغاية، ولم أحرك منها شيئا، حتى لا أغضبها في مماتها، وهي التي لم تغضب مني يوما وهي في حياتها.
لم أجد في كبت أمي شيئا ماديا يغنيني من الجوع، إلا من ملايين القلوب الرحيمة الطيبة لأمهات مثل قلب أمي الرحيم الطيب، كما قلوب كل الأمهات الموعودات بالجنة، حين وضعت تحت أقدامهن.
كبت أمي، ذو البابين، كان متواضعا مثل تواضعها، وكان شامخا كشموخها، وكان عتيقا كعتقها، لم أجد فيه حين فتحته، الا كما بسيطا من دراريعها وملافعها وعباءاتها وثوبا واحدا كان ترتديه في المناسبات وبعض الأدوية الشعبية التي كان تنصحنا بها.
وبجانب كبت أمي، كان ذلك الصندوق الحديدي، الذي رافقته ورافقها في حلها وترحالها، كانت تضع فيه بعض الطاسات المختلفة، فيها حلوياتنا الشعبية التي نعرفها، وبعض علب البخور والأطياب والمرشات والمباخر واستكانات الشاي وفناجين القهوة القديمة، وبعض الصحون الصينية كانت تعتز بها، لأنها كانت من «الدقة» القديمة، وصندوق مبيّت صغير فيه بعض قطع الذهب البسيطة، من خواتم وأساور وحجلها القديم، وأعتقد لو بعناها، لا يزيد ثمنها على مليون فلس!
كبت أمي، سيمفونية حب في أزيز بابيه عندما كانت تفتحه بهدوئها، وكبت أمي، لوحة تراث، حيث احتفظت به طوال سنوات عمرها، وكبت أمي، كتاب في دفتيه حروف ومعاني أسرار حياتها الخاصة، وكبت أمي، لا يمكن الإساءة اليه، ليكون مبعث سخرية في أفواه الملايين.
كبت أمي، لا يباع ولا يشترى بالملايين، وانما يهدى لمن يستحق، ليفتخر به أمام الملايين.