من المتفق عليه في العمل الإداري أن إسناد إنجاز معاملات الناس إلى الموظف العام هي مسؤولية يجب إتمامها دون تلكؤ أو تهرب أو تسويف، طالما أنها مستوفاة الشروط، لكنك سرعان ما تصاب بالدهشة أثناء مراجعتك من التفاوت الكبير بين أداء الموظفين أمامك.
ولا يحتاج الأمر إلى خبرة إدارية أو مستشار أجنبي، فمن السهل أن تميز الموظف المجتهد من الذي يتهرب من أداء عمله، وكيف لا وأنت تشاهده متنقلا من غرفة إلى أخرى بلا سبب، ويتمشى بين الموظفين ويحادثهم، فيعطلهم عن إنجاز مصالح خلق الله وهم بالانتظار.
وإذا فكرت قليلا من وجهة نظره، فقد يقول لنفسه ولماذا لا ينتظر؟ فهذا المراجع هو الحلقة الأضعف، وبالفعل هو الحلقة الأضعف، فهو لم يضع القوانين التي يجب عليه اتباعها وتطبيقها، ولم يضع القرارات الإدارية التي تنظم إنجاز تلك الإجراءات، لكنه يقع ضحية تلك التعقيدات التي ترتب عليه التزامات وعليه أن ينفذها وإلا....، يفقد حصوله على المنفعة، أو تصيبه الغرامات والإشكالات التي توقف معاملاته ومعاملات أهله وذريته وسكان منزله.
وليس لأي مسؤول التعذر بعدم معرفته بما يحدث للمراجعين، فالتصوير في كل مكان، والإشراف الميداني متاح له إن أراد، والمسؤول المباشر أو غير المباشر يعلم أن إصدار القرارات المفاجئة بإغلاق مركز أو تحويل للمراجعين، أو اشتراط شهادات أو وثائق إضافية للحصول على حقوق لأي شخص يعيش في الدولة كثيرا ما تؤدي إلى تقديم الخدمة في أماكن مؤقتة غالبا ما تكون غير مهيأة، لا يمكن لها أن تستقبل الكم الهائل من المراجعين، واللي مو عاجبه فالحيطان كثيرة أكثر من أن تعد وتحصى، خاصة في المباني القديمة والمتهالكة!
لن أركز في مقالتي على الجوانب السلوكية التي يمكن أن تصدر من بعض المراجعين ممن يفتقرون إلى الأدب وحسن التعامل، لكنني سأركز على ما نشاهده من بعض الموظفين، لأنهم هم الثابتون أما المراجعين فيتغيرون على الدوام.
فمن الموظفين (والموظفات) من يخجلك ببشاشته واحترامه، ويجعلك تدعو المولى عز وجل أن يرفع قدره على حسن تعامله وهمته العالية.
وهذا مقصد ديننا الحنيف الذي يبين أن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاءت لإتمام مكارم الأخلاق. فلهؤلاء كل الشكر والتقدير.
وتقع مسؤولية الحفاظ عليهم وتقدير جهودهم وإعطائهم دور القدوة لتشجيع الآخرين على من هم أعلى بالهرم الإداري، وما أعظم إنجازهم إذا ما رأيتهم ماضين في خدمة البشر وخاصة إذا وقعوا تحت قيادة مسؤول قد لا يكترث بهم ويعامل الصالح والطالح كسواسية لكسب الشعبية والود.
ولكن الأمر الخطير، وبؤرة الأورام الإدارية، تكمن في الموظفين الذين يستشعرون القوة الزائفة يعززها تصميم أماكن تقديم الخدمة بما يعزز ذلك الشعور.
فالموظف يجلس وأمامه جهازه وأوراقه، أما المراجع فعادة ما يقف، فيشعر أن من هو أمامه ضعيف محتاج إلى توقيعه الذي يحمل خاتم الدولة، ولابد من إذلال المراجع ليعرف قيمته.
وللتعالي على الخلق فنون، تتراوح من عدم رد التحية، ورفع الصوت، ونبرة الاستعلاء، وعجرفة التعامل، إلى أن تصل إلى إهمال من هو أمامه تماما.
فهو يكلم أصحابه تارة، أو يستقبل معاملة للغير من خلف الطاولة، أو يتحدث بهاتفه ويمازح غيره والمراجع أمامه واقف مستغرب ومتضايق، وإذا حاول أن يشتكي أشار إلى الورقة على الحائط التي خلفه وتقول «يعاقب المتطاول على الموظف العام.......»، ولا عزاء للمراجع!
ولك أيضا أن تشاهد الواسطة التي تجري جهارا نهارا بلا حياء. فمن يعرف فلانا لا يحتاج إلى أن يراجع. ومن لا يعرف أحدا فهو أمام أمرين، أحلاهما مر، إما أن يدفع ما هو مطلوب فيكبر ورم الرشوة في البلد، وتفتح له شهية تمرير المعاملات بلا حسيب ولا رقيب. أو أنه يتسول التوقيع ويستعطف من هو أعلى من الموظف لعل قلبه يحن عليه فيسجل فيه معروفا، ويمهر توقيعه للمعاملة لكي تمر، وهي بالأساس حقه.
نشأ عن هذا الوضع الإداري المختل كوارث اجتماعية تنمو سريعا، منها نظام اجتماعي يشبه مقاصة المصالح الإدارية خاصة بالإدارة العامة. ووفقا لهذا النظام، يقوم الموظف العام بالتفضل بإنجاز معاملتك بسهولة ليكون معروفا يسجل عليك في شكل رصيد من النقاط الاجتماعية يقوم باستبدالها لاحقا في أماكن أخرى يحتاجها هو أو يحتاجها المقربون له.
هذا النظام الجديد في التعامل الإداري الرسمي يخلق مراكز قوى جديدة فوق القانون، تفعل ما تريد. وعندها تنعدم العدالة الاجتماعية، ويحصل من لا يستحق على ما يريد من خلاله ويقف المراجع المستحق مذهولا من هذه الوضع الفاسد المزكم للأنوف.
جيلنا الآن يتعلم تدريجيا من ممارساتنا. وهو سريع الالتقاط والمحاكاة لتلك التصرفات، فإما أن ننقذ المجتمع بأن نزكي الصدوق المخلص ونقلع الفاسد، وإما أن ندع سرطان الفساد ينتشر حتى يموت الجسد بالتدريج.
[email protected]