نقتطف من أشجار المعرفة الخضراء اليانعة الناضجة ومن الحدائق الغناء زهورا عاطرة.
فلقد وصلت إلى قناعة أن المقتطفات ليست «قصا ولزقا» بل هي فن وإبداع ينبع من فعل القراءة أولا ثم من الإبداع في الفهم ثانيا ثم في تركيب الفكرة على الواقع الذي نعيشه ونرصده بكل ما فيه من تناقضات ومفارقات ومحاكاة.
إنني أمتلك مكتبة باسقة ذات ثمر طيب عمرها من عمري، وقد ناهزت على الخامسة والخمسين وهي تضم نورا من أوراق الحكمة والعلم والمعرفة.
ولا ريب أن زكاة العلم نشره، والكتب هي ثمار العلم والأسفار المقدسة، ولذلك قررت أن أنتخب بين الحين والحين كتابا أو مجموعة من الكتب لأقتطف زهورا لكم فأتحدث حولها وبذلك أكون قد غرست حب الكتاب والمعرفة في قلوب أبناء وبنات هذا الزمان الذين ابتلوا بالأجهزة التي أشغلتهم عن أنفسهم فما بالك بالكتاب.
ما زلت أذكر السعادة التي تغمرني عندما يحين وقت حصة المكتبة في المدرسة والتي كلما دخلتها أعيش في أروقتها الدهشة والفرحة والانبهار، لقد كنت أتصفح قصص المكتبة الخضراء وكتب السير الذاتية ومجلدات سلسلة المعرفة الحمراء العتيقة ومغامرات اغاثا كريستي، ولقد عثرت في المكتبة على كتاب كنت ومازلت أراه كنزا لكل من أراد أن يعيش في عالم ذهبي مليء بالغرائب والعجائب وهو كتاب ألف ليلة وليلة بمغامراته المشوقة ولياليه الذهبية، ثم تقدم بنا العمر وازددت حنكة في انتقاء القراءات فدخلت عالم الموسوعات وكتب الدين والفلسفة والحكمة والأدب، ومازلت أذكر نسخة والدي، حفظه الله، من كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد حسين هيكل، وهو الكتاب الذي جعلني أعشق سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأنارت فكري بعبقريته وسيرته التي يسعى الكثيرون إلى تشويهها والمسلمون في غفلة مقيتة، وأذكر هدية والدي لي في صغري وهي عبارة عن كتابين، الأول نهج البلاغة وما أدراك ما نهج البلاغة، فإنه صحيفة الحكمة الخالدة التي امتلأت نورا من كلمات الهدى والنور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، أما الثاني فلقد كان كتاب عقليات إسلامية للعلامة الشيخ محمد جواد مغنية، وهو كتاب زاخر بالمعرفة العلمية الدينية الحديثة التي تربى عليها جيلنا الذي تعلّم أن الدين الحقيقي هو الوجه الآخر للعلم اليقين وأن العقيدة يجب أن تكون سمحاء لا صخب فيها ولا تعصب.
مازلت أتذكر ذلك كله وأتمنى أن يعود بي الزمن إلى تلك اللحظات التي مازلت أشعر بحلاوتها في روحي.
إن عزائي الوحيد هو أن آثار ذاك الزمن الجميل على روحي مازالت باقية فلم تحولني الحياة الصاخبة وتقلباتها إلى آلة أو شيء مجرد من طيب المشاعر ومكارم الأخلاق، كما أنني على عهد الوفاء لمكارم الأخلاق باق وإن أزعج ذلك البعض.