يقال إن كل فنون الإقناع المعاصرة التي تستهدف تغيير السلوك ما هي إلا محاولات تحايلية تستهدف تخريب التفكير السليم وأسر عقل الإنسان في أضيق نطاق ممكن، فإن في عالمنا اليوم الكثير ممن يريد أن يستأثر بقطعة من عقل أي واحد بيننا، وكل هؤلاء لا يريدون أن يمنحوك فرصة للتفكير المتأني المتوازن بل يرغبون في تعميق الإهمال واللامبالاة لإبعادك عن هدفك الحقيقي.
هناك ما يسميه البعض اليوم «التفكير الإيجابي»، ولقد تسببت هذه الفكرة في تكريس حالة التلقي التي هي في وجهها الحقيقي عدم مقاومة أي فكرة واردة والاستجابة لها دون فحص وتدقيق في المضمون وفي آثار قبولها.
لذلك فإنه ينبغي لنا أولا وقبل كل شيء أن ندرك قيمة التفكير الحر وآثاره الإيجابية على حياتنا، كما يجب أن ندرب أنفسنا على ممارسة النقد لأفكارنا في كل لحظة من لحظات حياتنا.
إن عملية التفكير هي تصالح مع ذواتنا المفكرة وان التفكير النقدي على وجه الخصوص هو محاولة للنفاذ إلى مسلماتنا المسبقة وافتراضاتنا وتحيزاتنا والركائز التي عليها نبنى آراءنا ومواقفنا لكي نتخطى المحاولات المستمرة لسلبنا القدرة على التفكير السليم الحر.
ليس كل تحيز معرفي ضارا وسلبيا بل هناك تحيزات قد تكون مفيدة في الحياة، لذا لا ينبغي أن نشكك في كل أمر، فنحن نحتاج إلى التحيزات الإيجابية التي تساهم في خلق الهوية المعرفية والشخصية الأخلاقية والإرادة بل إنها هي التي تميزنا عن غيرنا وتعطينا وضوح الرؤية لغايتنا في الحياة.
النقد الفكري لا يعني العشوائية ولا العبثية، فالإنسان عادة ما يكون متواطئا مع ذاته ويتهرب من المسؤولية باستخدام اللغة العائمة والمفردات الفضفاضة واسعة المعاني غامضة الأهداف والتي تحيط بعالمنا من كل حدب وصوب، ولذلك فإنه ينبغي علينا أن ندرك أهمية مرحلة ما قبل ممارسة التفكير النقدي، وهي مرحلة التأمل وبناء القدرات الذاتية على ممارسة العمل الفكري بمنهجية علمية وحرة على أوسع نطاق، وبعد هذه المرحلة وممارسة التفكير تأتي مرحلة البناء الفكري لخطابنا الذي يجب أن نلتزم فيه اللغة الواضحة والخطاب القيمي المتوازن والابتعاد عن المفاهيم الملتبسة والمشبوهة.
إن سلسلة معارفنا يجب أن تنطلق من قيمة الثقة بالذات التي ينبغي أن تسيطر على عملنا الفكري، ولا ريب أن هذه الصفة تسهم كثيرا في إيجاد التدفق الفكري وتنشيط الحركة العلمية المطلوبة لإحياء المجتمع والفرد.