لكي لا تتحول الحرية الفكرية إلى حالة من الفوضى والاهتزاز لابد من تحديد العلاقة بين استقرار البنية المجتمعية وحركة الأفكار اللا منتظمة، ذلك أن حركة الفكر، ولاسيما مع تقدم العلوم وتدفق المخترعات، تجعل الأفكار في حالة دائمة من الأخذ والرد الأمر الذي يعني تقلبها وعدم ثباتها، فإذا كان بناء المجتمع يقوم على الفكر المؤسس جيدا ونفترض حرية الفكر حتى فيما يخص ذلك فكيف يمكن لنا أن نبني مجتمعا مستقرا على أساس غير مستقر؟ هذا سؤال مستحق، ونؤكد هنا أننا ملزمون بتحديد قواعد ثبات المجتمع، فهل هي مرتبطة بتعقيدات الفكر أو تقوم على أساس وجود بعض العناصر الضرورية لحفظ الحياة البشرية، وهي أمور ثابتة غالبا، وإذا استعرضنا ما ورد من إشارات معرفية في القرآن الكريم فإننا سنلمح أمرين أساسيين يمثلان الركيزة الأساسية التي تبنى عليها المجتمعات والدول وهما ركيزتا الأمن والغذاء، قال تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، وقال عز شأنه: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)، وهنا تأكيد على أهمية الركيزتين، إذ إن تبدلهما قد يؤدي إلى دمار المجتمعات.
إن هاتين الركيزتين هما الحضن الكبير الذي يحتوي حركة الإنسان في المجتمع فردا أو جماعة لأن الخائف أو الجائع لا يستطيع أن ينتج ولا يقدر على أن يبدع ولا أن يفكر بحرية، وعلى هذا فإذا فصلنا بين وظيفة الجماعة الإنسانية وحركة الفكر الإنساني فإننا يمكننا أن نقيم النظام على أساس ثابت في الوقت الذي يحتضن ذلك النظام الحريات الإنسانية الدينية مثل حرية الفكر وحرية الإبداع ويكون موجها نحو كيفية المحافظة على استمرار أمن المجتمع وانتظام حياة أفراده بكرامة وأمن وسلام.
هذا مضافا إلى أن بناء المجتمع بحاجة إلى القيم الأخلاقية الإنسانية التي هي موضع اتفاق بين الناس جميعا كقيم الصدق والإخلاص والأمانة والكفاءة وغيرهما وهذا يمثل جزءا كبيرا من استقرار بناء المجتمعات والتي لا يؤثر فيها اختلاف الأديان أو المذاهب أو الاتجاهات الفكرية والأفكار عموما وهي التي تقيم البناء الاجتماعي المتنوع فمن الثبات القيمي إلى التعددية والتنوع الذي يجب أن نحترمه قال تعالي (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).