ليس من السائد أن يعترف الأب للابن بأنه قد تعلم منه، لكنني أكاد أجزم بأنه من السمو الأخلاقي أن يعترف الإنسان بالحقائق مهما كانت قاسية ومهما كانت تمس غروره أو كبرياءه، ولا حرج في أن نتعلم من بعضنا البعض بل ومن الكائنات الأخرى فإن لله في خلقه شؤونا، وهذه حقيقة كبيرة تتوهج في ضمائرنا ويحاول البعض منا طمسها إرضاء لذاته، لكنني لست من هؤلاء بل انني ممن يسعى إلى التواضع ليزداد تنورا بالحكمة وبدفء الضمير الذي يجعلنا من أهل النقاء والسمو شيئا فشيئا.
لذلك، فإنني اعترف بأنني قد تعلمت من ولدي وقرة عيني أمورا عظيمة وهي:
1 ـ تعلمت أن الخير والنور يولد مع الإنسان فلا يتركه في أي لحظة من لحظاته، ومهما أساء الإنسان إلى نفسه أو إلى غيره فإن نورانيته تظل لصيقة به وأنها ستجد لحظتها الحاسمة لتتجدد في الإنسان، وما على الإنسان إلا أن يغتنم الفرصة ويتقدم بشجاعة وحماسة وثقة بالذات عالية ليخرج ما هو كائن فيه فإن في خروجه إحياء لذاته وتأسيسا لحياة جديدة تمتاز بأنها تنشأ من الداخل فتضيء القلب وتنير الفكر وتزيل شبح الهموم من على الروح فتزداد جوهرة الكيان البشري نورا.
2 ـ تعلمت من ولدي ألا أحكم على الإنسان من أول نظرة وألا أقبله أيضا من أول لقاء بل أختبره كما نختبر المعادن والجواهر باحثا عن أصالتها فإن وجدتها وإلا طرحتها جانبا.
3 ـ تعلمت من ولدي أن أقرأ بتمعن دون حكم على الأفكار من منطلق شخصي أو فئوي أو أيديولوجي بل يكون الحكم على الفكرة من خلال التقصي الشديد عنها وعن أحوالها وأحوال من صدرت عنه، فالفكرة وإن كانت مجردة ظاهرا إلا أنها قد تتلوث بما يلتصق بذات صاحبها من مشاعر بائسة أو عواطف منفعلة أو قبليات مؤدلجة أو ذكريات مختزنة في باطن الإنسان.
4 ـ تعلمت من ولدي أن أتعلم من الجميع بالإنصات وعدم الاستجابة لأي استفزاز أو تحد أو تجاهل أو عناد، كما تعلمت ألا أشغل نفسي بالآخرين، فإن الحياة قصيرة رغم امتدادها ووجودنا فيها ذو هدف عظيم يبدأ من داخلنا.
5 ـ تعلمت منك يا ولدي أن هناك وراء كل حركة إنسانية حكاية قد لا نكون نحن من كتبها وصاغها وقد لا نكون نحن من سيفهمها، ولكننا بلا شك قادرون على اختيار موقفنا تجاهها وعلى احترام تجارب غيرنا وحقوقهم.