حين شارف فبراير على نهايته استعدت آخر رحلة لي كانت في 28 فبراير عائدة إلى الكويت من إسطنبول، ولو كنت أعرف أنها ستكون رحلتي الأخيرة لاخترت وجهة أخرى وذلك لكرهي لإسطنبول وكل ما يدور بها ولكنها كانت رحلة عمل.
عام مضى على ارتداء الكمام ذلك الذي ظننت أنه وقتي، عام وأنا أتفادى العمل بالميدان خوفا على أهلي وليس نفسي، عام وأنا محرومة من رحلاتي التطوعية في الكويت وخارجها لأن قرار الاختلاط والسفر لم يصبح متعلقا بمصيري فقط، بل أصبح ولأول مرة متعلقا بحياة أسرة كاملة.
حين اخترت العمل الصحافي والميدان الإنساني والسفر لبقاع فقيرة للتغطية الإعلامية والكتابة عنها كنت أشعر بفرحة الشغف ترقص بين ضلوعي في كل رحلة أقوم بها رغم التعب، واليوم عشت عاما كاملا محرومة من فرحة الشغف، ولكن مع هذه الرحلة التي دامت عاما وربما تزيد، تعمقت علاقتي بأشخاص كانوا على هامش حياتي من فرط انشغالي، وكثرة سفري التي تحول دون تكوين علاقات جديدة، والغريب أن صفيت علاقات قديمة كانت تشوبها بعض الشوائب ولكن باب العشرة والمجاملة كان يحول دوما أن يبقى الباب مواربا.
تعلمت مع كورونا «كوفيد-١٩» أن الحياة يمكنها أن تتغير بين ليلة وضحاها، وأنه لا شيء ثابتا بها، كذلك هم البشر وكذلك هو العلم، كيف يمكن لفيروس صغير لا يرى بالعين المجردة أن يغير الحياة رأسا على عقب بل العالم أجمع! أصبحت المعقمات ضرورة، والكمامات ضرورة، والحذر ضرورة، باتت الخطوات مدروسة والتفكير أصبح خارج نطاق «الأنا»، وامتد لـ «نحن»، ومصير من حولنا.
رغم ذلك أعاد «كوفيد-١٩» مشكورا البساطة للحياة، وعدم التكلف بالأعراس، الزيارات مقتصرة على عدد محدود ممن يحبونك حقا، ولم يصبح للمجاملة عنوان.
التكلف والمبالغة بالمظاهر لم تعد لهما فائدة، لذا تزايدت حالات الزواج ولم يعد عائق المهر والأفراح مشكلة.
عام مضى وأنا أتأمل كيف أن صحتي النفسية مرت بحالات عديدة، من رفض إلى قبول إلى تعايش، أدركت حينها قدرة الإنسان العظيمة على التعايش حتى وإن لم يكن يدرك ذلك.
عام غيبت به كورونا أحبابا وأصدقاء وأهلا، كان الموت قدرا علينا القبول به، تعلمنا التعامل مع الفقد وكأنه حقيقة، والصبر على الابتلاء وكأنه قدر.
علمنا (كوفيد-١٩) أن اعتياد النعم جحود، وبتنا نقدر أبسط الأشياء، وبات النسيم العليل والصحبة الجميلة هي أقصى طموحاتنا.
عام تعرفت به على من يحبونني حقيقة، وتعرفت على أبعاد الصبر في نفسي وفي نفوس من حولي، كنا كفرقة إنقاذ، من يفترسه الهم نتواجد حوله كمجموعة مساندة إلى أن يخرج منه، وحين يغتال أي شخص منا الحزن والاكتئاب كنا نحرص على هذا النوع من الدعم النفسي.
عام تمت به تعرية الكثير من البشر، تعرفنا على أوجه عديدة للفساد، ولكن تعرفنا به أكثر على أنفسنا، واختلينا بها كما لم نفعل من قبل، كان عام رغم قسوته يحمل دروسا عديدة لن تنسى، وستبقى آثار الجائحة النفسية طويلة في حياتنا.
وأظن أنه حان الوقت لأن نمضي قدما في التطعيم، في الحرص على التباعد، في تطبيق الاشتراطات الصحية، حتى تنجلي هذه الجائحة لأنني اشتقت للسفر، المغامرة، أحضان الغرباء، والرقص في أفريقيا في المدن النائية، واشتقت كثيرا للحياة قبل «كورونا»، تلك التي لم أقدرها في ذلك الوقت كما أقدرها اليوم.
[email protected]