بداية، لابد أن أشير إلى أنني من عشاق الألوان القوية، يأسرني اللون حين يحضر بكل عنفوانه ليقول «هأنذا». لعله ما أحببته في النقوشات الهندية والأفريقية، جذابة رغم بساطتها، تنثر البهجة والحياة حولها أينما تقع عليها العيون.
وقد كنت أظن أن مثل هذه الفنون الجميلة تنحصر في تلك البلدان نتاجا لحضاراتها العريقة، لكني فوجئت بأن هناك فنا يضاهي الفن الهندي والأفريقي في روعة الألوان والتناغم، موجود في قلب الجزيرة العربية، بل وفي أشد مناطقها وعورة وقسوة، منطقة عسير.
هذا ما كشفته لنا بنت السعودية الدكتورة هيفاء الحبابي، المحاضرة في قسم العمارة والتصميم الداخلي في جامعة الأمير سلطان، والتي حازت شهادتها في الدكتوراه عن «دور المرأة في العمارة في منطقة عسير».
معلومات جميلة وممتعة للغاية سردتها لنا د.هيفاء عبر اللقاء التلفزيوني الذي أجرته معها قناة الوطن الكويتية، عن فن «القط» الذي مارسته المرأة العسيرية وتخصصت فيه دون الرجال، فتميزت به البيوت العسيرية عن جميع بيوت العالم، حيث يتكفل الرجل العسيري ببناء البيت كاملا ويسلمه للمرأة، فتقوم هي بدور مهندسة الديكور والتصميم الداخلي بكل مراحله، بدءا من «تلييس» الجدران أي تنعيمها، ثم صبغها باللون الأخضر، وانتهاء بمرحلة النقش أو كما يسمونها هناك «القط» المتفرد بخطوطه ونقوشه ذات الأشكال الهندسية.
«القط» فن نسائي 100%، ولا تعرفه غير العسيريات، ربما لأن عسير التي استمدت اسمها من عسر الوصول إليها بسبب وعورة وقسوة تضاريسها الجبلية، أنجبت نساء قويات قادرات على مشاركة الرجل في كل شيء. ويعتبر أقدم فن في الجزيرة لعربية بعد النقش على الصخور، ولا مثيل له كفن نسائي في العالم كله. نعم، هناك شيء مشابه له في الهند، حيث كانت الهنديات يقمن برسم أشكال ونقوشات هندسية على جدران بيوتهن، لكنه يختلف عن القط العسيري بأنه كان ينفذ على جدران البيوت من الخارج تبعا لاعتقاد سائد هناك بأن تلك النقوش كفيلة بطرد الأرواح الشريرة من المكان، ويتم فقط في موسم حصاد الرز لتزول النقوشات التي تصنع من حبات الرز نفسها بانتهاء الموسم. ومثله في أفريقيا، إلا أن أيا منهما لا يضاهي فن القط النسائي العسيري في دقته وتناسقه وجماله.
ما أثار إعجابي في فن «القط» هذا، حجم ما كانت تكابده المرأة العسيرية لإنجاز تلك اللوحات الجدارية في زمن لم تتوافر فيه الأصباغ الحالية وأدوات الرسم وتقنيات النقش المتيسرة لنا في يومنا هذا. فهي من كانت تحضر المواد الخام لتصنع منها الألوان، تتسلق الجبال الوعرة وتعرض نفسها لخطر السقوط من عل كل مرة، لتجلب الأحجار الحمراء، ثم تقوم بطحنها فخلطها بالصمغ العربي المأخوذ من الشجر، ومع قليل من الماء تباشر بالرسم، أما الفرشاة التي استخدمتها فهي أيضا مأخوذة من البهائم، يعني الشغل كله «أورغانيك» خالص.
هذه الممارسة من بدايتها لنهايتها، كان الرجل العسيري لا يتدخل فيها نهائيا، فالمفترض أن كل ربة بيت في عسير مسؤولة شخصيا عن تزيين منزلها، أما الأسر المقتدرة والميسورة فإنها تستأجر فنانة بـ «القط» تقوم بتزيين مجالسهن. وبعد الانتهاء من «القط» يأتي رب البيت ليعلق ما في حوزته من أسلحة كالسيوف أو الجنبية أو الخناجر في الجزء العلوي من جدار المجلس، وبهذا يتباهى أصحاب البيت أمام الضيوف بقوة الرجل وبجمال ذوق المرأة.
حقيقة، أكبرت في الدكتورة هيفاء إصرارها على استيفاء كل تفاصيل فن القط موضوع رسالتها في الدكتوراه عبر المقابلات الشخصية لرائدات هذا الفن من نساء عسير، بسبب شح المراجع والأبحاث المتاحة حول هذا الفن، وهو ما اضطرها إلى الاعتماد على تلك المقابلات، لم يمنعها من ذلك حظر قيادة السيارة المفروض في السعودية، بل استطاعت أن تحصل على دعم من الأمير خالد الفيصل الذي وفر لها السيارة والمرافقين إلى منطقة عسير في رحلتها الأولى، ومثله من الأمير سلطان بن سلمان، حيث تكفل برحلتها الثانية.
ونقطة أثارتها الدكتورة هيفاء تستحق الاهتمام، وهي أننا لا ندري عن مكنونات تراثنا القيمة إلا بعد أن يكتشفها الغربيون أولا ثم يعرفوننا عليه بعد أن يكونوا قد انتهوا من تسويق أنفسهم عبره عالميا. وهذا بالضبط ما حدث مع فن «القط»، الدكتورة هيفاء ورغم أنها من عسير أساسا لكنها لم تكن تعلم بوجود هذا الفن في منطقتها إلا بعد أن حضرت معرضا للمصور الفرنسي العالمي تيري موجيه عرض فيه لقطاته للفن العسيري، ونشرها في كتاب مشهور جدا على مستوى العالم بيعت منه كميات خرافية. لكنه للأسف لم ينقل للعالم فن القط كما هو في الواقع، بل تلاعب بالحقائق بعض الشيء، حيث قام بدفع مبالغ نقدية لأناس لينقشوا على جدران بيوت من الخارج النقوشات العسيرية لأجل التصوير، بينما في الحقيقة التي اكتشفتها الدكتورة بعد ذلك حين زارت عسير أنه لم تكن هناك بيوت مرسومة من الخارج كما نقلها المصور الفرنسي، فالقط لتزيين مجالس البيوت من الداخل فقط.
هذا الاستغلال الغربي المعتاد لتراثنا سببه افتقارنا لمراجع توثق الفن بأصوله الصحيحة وتفاصيله الدقيقة، وهو ما دفع د. هيفاء إلى اختياره ليكون موضوع رسالتها في الدكتوراه التي قدمتها في بريطانيا لتكون أول شخص في العالم بشكل عام وفي السعودية بشكل خاص يوثق هذا الفن الجميل لتحفظه من الاندثار والتزوير والتشويه.
فلها مني كل الشكر والتقدير.
twitter: @mundahisha - email: [email protected]