لا أحد يستطيع أن يدمرك بالسهولة التي تستطيع أن تدمر بها نفسك، فأي هزيمة تبدأ من الداخل، وهذا ينطبق على الأفراد والمجتمعات والأمم، والشواهد التاريخية تكاد لا تحصى، منها تاريخ الإمبراطورية الرومانية التي تعتبر خير دليل، تلك الإمبراطورية التي قهرت العديد من الحضارات، لدرجة أن أغلب هزائمها حدثت من الداخل، فتارة ينقلب عليها جيشها وأخرى ينهبها مواطنوها حتى أن نسبة كبيرة من الآثار الرومانية دمرها أهل المدينة أنفسهم فكانوا يأخذون الحجارة من المعابد والمباني المهمة التاريخية التي بناها أجدادهم، ليبنوا منازلهم ويدمرون التماثيل لأخذ غرائها، حاولت السلطات الرومانية بفترات متعاقبة أن توقف هذا التدمير الذاتي عن طريق إصدار مراسيم تمنع هذا الدمار لكن دون جدوى.
من ناحية أخرى، لا يمكن لأفضل طبيب أن يعالج مريض لا يعترف بمرضه ويكشف عن جرحه، فأول مراحل العلاج يبدأ من النفس والاعتراف بوجود المرض، ومن ثم الذهاب للمختصين لطلب العلاج، أما المريض الذي يمنعه كبرياؤه من الاعتراف بالمرض سيضل يعاني أبد الدهر، كذلك المجتمعات والأفراد الذين يرون أنفسهم أنهم الأفضل سيظلون تحت ظل التخلف إلى أن يبدأوا بالاعتراف بمرضهم، أما بالنسبة للمجتمعات التي يبث المجتمع فيه روح الفرقة وتغذية النعرات ودون الاعتراف بالمشكلة، فيبدأ المجتمع بتدمير نفسه من الداخل حتى دون أي تدخل تدميري خارجي، كحال المجتمع الروماني.
في الدول العربية أكبر مشاكلنا حسب اعتقادي هي عدم الاعتراف بمشاكلنا سواء كأفراد أو كمجتمعات وحتى على مستوى الدول، فتجدنا تارة نتهم الآخر بالعنصرية ولا نعترف بعنصريتنا التي نمارسها حتى على أنفسنا، وتارة أخرى ننعت الآخرين بالتخلف ولا نعالج تخلفنا، ونمارس أسهل شيء للهروب من الواقع وهو اتهام الآخر بأنه يحيك ضدنا المؤامرات، فتجدنا نتفنن في اختراع نظريات المؤامرة ونعيشها ونفسر العالم من خلالها، وهي إبر بنج نفسية حتى نهرب من الواقع دون الاعتراف به وطرح الحلول.
تطور المجتمعات يبدأ بطرح الأفكار وتصارعها حتى يعيش الصحيح منها، والمقصود في الصحيح هنا هو الفكر المناسب للمجتمع، فقد تكون الفكرة الصحيحة في مجتمع ما غير صحيحة في آخر، لذلك دائما ما يكون تطور المجتمعات يبدأ من داخلها، فطريقة النهضة اليابانية مثلا قد تكون غير مناسبة للكويت لأن الأفكار تطورت في المجتمع الياباني على حسب ظروف وعادات وثقافة المجتمع هناك، لذلك احتمالية عدم مناسبتها لنا كبيرة، وحتى تبدأ الأفكار بالتصارع وتصفية نفسها لابد أن تكون هناك حرية رأي تسمح بهذا الطرح، وهنا تكون إعادة النظر بقانون المرئي والمسموع وتغييره بما يتناسب مع حرية الرأي شرط أساسي لذلك.