عندما لا يثق المواطن بحكومته لن يصدقها، حتى لو كانت نواياها طيبة، عندما لا يثق المريض في طبيبه لن يصدقه، وإن كان أفضل طبيب في العالم، كذلك المعلم وشيخ الدين، الثقة مهمة في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة، بناء الثقة بين أفراد المجتمع تحتاج إلى الكثير من الوقت والعمل وتراكم من الخبرات التاريخية، وللأسف هدمها سهل جداً.
قد يكون قيام مراهق بتركيب عادم سيارة، يصدر صوتا عاليا يزعج المارة، موضوعا بسيطا، لكن مع تكراره يهدم الثقة داخل المجتمع بشكل كبير، فمجرد توافر هذا العادم المزعج بالأسواق رغم المنع القانوني لوجوده، يحتم وجود رقابة جمركية على دخوله، وأن بيع المحلات لهذا العادم دليل على عدم وجود رقابة تجارية على المحلات، أو فساد هذه الرقابة بالسماح لبعض المحلات دون غيرها، عن طريق الرشى أو الواسطة، وتكرار تركيب المراهقين لهذه العوادم المزعجة، دليل واضح على سوء التربية، واستمرار تركيبهم له دليل على عدم وجود رقابة من شرطة المرور، وعدم تطبيق قانون المرور، وعدم تطبيق القانون دليل على فشل في إدارة وزارة الداخلية، وهذا يوضح فشل في المجتمع والدولة، فمجرد حدث صغير مثل هذا يوضح الفشل، بالحقيقة الفشل يكون واضحا مهما عملت عليه عمليات التجميل، وأصدرت البيانات والقرارات التجميلية، سيظل واضحا، وطبعا مثل هذه الحوادث البسيطة تدمر أيما دمار الثقة داخل المجتمع.
يتضح بشكل ملحوظ في المجتمع الكويتي بشكل خاص والمجتمع العربي بشكل عام، وجود أزمة ثقة، وهي كبيرة بحيث تمنع أي تقدم وتطور في العلاقات البينية داخل المجتمع، فالدولة تعامل المواطن على أنه غير أهل للثقة، وهذا واضح عندما يذهب المواطن لأي إدارة أو جهة حكومية، للتقديم على طلب ما، تقوم الجهة بطلب كم هائل من الإثباتات التي توضح أن هذا المواطن مستحق لهذا الطلب، مع أنه المفروض أن يقدم المواطن المستحق مع إثباتات بسيطة، ويعاقب قانونيا في حال عدم استحقاقه، وهذه الأزمة تتضح حتى في تربية الأسر لأبنائهم، فالوالدان يضعان أبنائهما تحت رقابة قاسية للتأكد من عدم تجاوزهم، وكأنهم متهمون بالتجاوز حتى يثبت العكس.
مثل ما لكل شيء عيوب، فإن الثقة الزائدة كذلك لها عيوب، فعندما يثق الإنسان بآخر يسلم له نفسه دون تفكير، فالمعلومة التي يقولها إنسان ثقة حتى لو كانت خاطئة، نصدقها دون تفكير أو تمحيص، هذا طبع بشري لا يمكن تجاوزه، فأغلب المشاكل والقضايا التي تحدث بين الأفراد يكون مرجعها أن شخصا وثق في الآخر وأحدهما ليس أهلا للثقة، وأغلب النصابين يستغلون هذا الطبع البشري في نصبهم، فيمثل الشخص النصاب أنه أهل للثقة، ويقدم الأدلة غير المباشرة على ذلك، وبعد أن يثق فيه الطرف الآخر، يقوم بعملية النصب، وهذه يقوم بها السياسيون كثيرا في الدول التي يكثر فيها الفساد، فالسياسي الفاسد يقدم نفسه لمواطنيه على أنه أهل للثقة، وبعد أن يعطيه الشعب الثقة، يستخدمها حتى يصل إلى مآربه الفاسدة، ويظل على هذه الحال حتى يكتشفه المواطنون.
الثقة هي المحور الرئيسي الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية في اليابان، ترتكز تربية الأسرة لأبنائها على ألا يخونوا هذا المحور، الذي أعطاه لهم المجتمع، وأن يقدسوه ويحترموه، حتى المدرسة تقوم كذلك بتقوية هذه الثقة لدى الطلبة، فنادرا ما يقوم المعلم بمراقبة طلبته أثناء الاختبارات، وجود المعلم داخل الفصل ليس للرقابة إنما لشرح غير المفهوم داخل الاختبار، وكثيرا ما يخرج المعلم من الفصل ويعود قبل الانتهاء، ومن يخون هذه الثقة بالغش في الاختبار، ينبذه زملاؤه الطلبة، وهي أحد الأسرار المهمة لنجاح الشركات اليابانية، فالموظف الياباني يتعامل مع شركته وكأنها ملكه الخاص، يعطيها بكل تفان في عمله، والشركة بدورها لا تخون ثقة الموظف بها، فتعطيه حقوقه حتى قبل أن يطالب بها، وعندما يستقيل الموظف الياباني من شركة ويرغب في الالتحاق بغيرها، غالبا لا توظفه الشركات الأخرى لأنها تعتقد أنه خان ثقة شركته الأولى به، ومن الوارد جدا أنه سيخون الثقة في المستقبل.
كنتيجة حتمية لثقة المجتمع بأفراده، يتنامى لديهم حس النقد الذاتي، وهذا ملحوظ عند الفرد الياباني، فهم متعصبون جدا بالنقد الذاتي لدرجة أنهم يعاقبون أنفسهم قبل حتى أن يعاقبهم القانون، فأكبر عقاب ممكن أن يعاقب به الفرد الياباني هو أن ينظر له المجتمع على أنه غير أهل للثقة، وهذا جلي بشكل واضح في التراث الياباني، وعند الساموراي خصوصا، الذي يقوم بقتل نفسه بطريقة الهراكيري، لمجرد اعتقاد سيده بأنه خان ثقته فيه، فالهراكيري لدى الياباني هي قمة النقد الذاتي والتضحية في سبيلها، لذا ينظر لها اليابانيون نظرة التقدير والاحترام.