الثقافة عبارة عن أفراد يجتمعون ويكوّنون فكرا ولغة، وطريقة حياة معينة، نختصرها ونسميها (ثقافة)، ويتم توارثها حتى ينقطع نسلها وتموت فكريا، والتاريخ يخبرنا عن عشرات الثقافات التي ماتت لسبب بسيط هو عدم تعاطيها مع العصر الذي ماتت فيه بشكل مناسب، والثقافات كالإنسان تمر بمراحل عمرية، تبدأ فتية سهلة من البيئة المحلية تنحني معها وتقسو عندما تقسو بيئتها، وعندما تسيطر على قلوب الناس وعقولهم تبدأ بزيادة هذه القساوة، وتزداد حتى تصل إلى مرحلة الشيخوخة، وما لم يقم المؤمنون بها بتجديدها وطرح أفكار تتناسق مع العصر تموت، وبعدها يستمر تأثيرها بشكل ضئيل مادام الإنسان موجودا على الأرض.
نحن نعيش في عالم تسيطر عليه ثقافة فتية، في طور التبلور، وهي الثقافة الأميركية، تتعاطى مع الحياة بكل مرونة وسيولة، إن كانت الرياح عاتية انحنت، وبعد مرورها تقف وتكمل طريقها، وتبدأ من جديد، دون أي ثقل فكري وقساوة، ومن الطبيعي أن تحن الثقافة الجديدة على زميلاتها من الثقافة الغربية، وبدأت بالتعاون معهم رغم الصراعات والحروب التي كانت بينهم، فشكلوا «تحالفا» ضد الثقافات الأخرى.
الثقافة الصينية كانت في البداية ناقمة على هذا التحالف، وكثقافة قديمة تفتقد إلى المرونة، حاولت أن تتصادم معهم، لكن بسبب قسوتها لم تستطع أن تتساير مع عصر السرعة، فتدارك الصينيون الوضع وغيروا قوانينهم، وطرق اقتصادهم، بل وحتى أجزاء من حياتهم حتى يستطيعوا التعاطي مع هذه السرعة، وفعلا أثبتوا تأقلمهم بجدارة واستطاعوا البروز كمصنع للعالم.
الثقافة العربية كانت في غاية المرونة في عصرها الذهبي، فترجمت الكتب، ورحبت بالمخالف من الديانات الأخرى، واعتلوا أعلى المناصب في الدولة، واحتوت جميع الأعراق، وأذابت ثقافات شتى في داخلها، لكن مع تراجعها، حدث الاستعمار، وبعد انجلائه، أصبح العرب يخافون من كل ما هو أجنبي، وبنوا سدا ضخما داخل العقل العربي يمنعهم من استيعاب أي فكر خارجي، فتميز هذا الوقت بقساوة الثقافة العربية، وإن بدأت تلين في الآونة الأخيرة، لكن ليس بالقدر الكافي، وتحتاج مرونة أكثر بكثير لاستيعاب روح العصر والتماشي معه.