يذكر أن السلطان محمد الفاتح صاحب العقلية العسكرية الفذة كثير الحروب وكان يحارب في أكثر من جبهة في نفس الوقت، وكانت دولة المجر عدوه اللدود، ولما استصعب عليه الأمر، أرسل مبعوثا للمجر يطلب منهم التفاوض على السلام بين الدولتين، وصل المبعوث المجري لإسطنبول استقبلوه استقبالا يليق به وجعلوه يستريح من وعثاء السفر، وبعد فترة ليست قليلة أبلغوه بأن السلطان ذهب للثغور ليحارب الأعداء، ذهب إليه المبعوث، وبعد أن استقبلوه استقبالا فخما، قالوا له ان السلطان ذهب لثغر آخر، وهلم جرا، إلى أن انتصر السلطان بحروبه ثم قابل المبعوث ووضع شروطا تعجيزية لوقف الحرب مع المجر وتوقيع المعاهدة، بالطبع لم يرغب الفاتح في توقيع المعاهدة وكان هدفه أن يوقف جبهة المجر لفترة بسيطة لينتصر على أعدائه الآخرين ومن ثم يعود لمحاربتهم بكل قوته.
هذه الآلية في تسويف الأمور متبعة في الكثير من المجالات سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، وهو تكتيك غاية في الروعة متى ما استخدم في محله مثل الحاصل في مثالنا فالفاتح الذي استخدم هذا التكتيك لصالح أمته وشعبه، كرمه رعاياه بأن أطلق على أهم منطقة في إسطنبول منطقة الفاتح نسبة له، لكن الغريب والمحزن أن هذا ما تتبعه أغلب الحكومات العربية خصوصا الجمهوريات مع مواطنيها، فتجد الشعب يطالب بمطالبات مستحقة وعوضا عن تتبعها الحكومات تقوم بإدخال موضوع آخر حتى يتلهى المطالبون بهذه المواضيع، وتترك المطالبات المهمة ويتم تسويفها، وتتراكم المطالبات التي كانت صغيرة ومن الممكن تنفيذها في حينها، حتى تتدحرج ككرة الثلج وتصبح كبيرة غير قابلة للتنفيذ، ومع زيادة الوعي الاجتماعي لدى الشعوب العربية وفهم هذه الخطة من التسويف غير المبرر يصبح مفعولها ضعيفا جدا ولا تنطلي إلا على قليل منهم، وعند هذه النقطة تبدأ الثورات ويموت الضحايا وتبدأ الحروب الداخلية.
مرور درس كبير كالربيع العربي على الحكومات العربية دون اتعاظ منه، أمر محزن فنرى أن الثورات ما تبرح أن تهدأ حتى تعود بشكل أقوى وأصلب، بالأمس كانت في السودان واليوم في لبنان والعراق وآخذة بالتوسع حتى يحدث ربيع عربي مضاد.
يكرر التاريخ نفسه بطريقة واضحة جدا، يكابر على الاستسلام لها المتعجرفون، فالثورة الفرنسية لم تنجح عام 1789 فبعد أن تسلم نابليون الحكم بطريقة ديموقراطية خسر حرب «واترلو» بعد أن دعمت الحكومات الأوروبية ابن عم الملك، ففي عام 1815 عاد ابن عم الملك السابق الذي قتله الثوار من آل بوربون إلى السلطة وهم السلالة الملكية التي قامت الثورة ضدهم.
وبعد أن استقر الوضع فترة من الزمن عاد الشعب الفرنسي للثورة عام 1830 ونجح مرة أخرى في ثورته، وهذا بالضبط ما حدث في الثورتين الأميركية والانجليزية كذلك، بل ان هذا ديدن أغلب الثورات في العالم.