من العجائب التي يذكرها التاريخ أن الفيلسوف إيمبيدوكليس أراد أن يقنع مريديه بأن الإنسان الصافي النقي عندما يموت يتحول إلى إله، فذهب معهم إلى فوهة بركان إتنا في صقلية، وألقى بنفسه، كتطبيق حي لفكرته وتوضيح لطلبته مدى إيمانه بها، وطبعا مات مشويا دون أي شيء خارق للطبيعة.
يصل الإنسان في مرحلة ما إلى الإيمان التام بفكرة، فلا يقبل فيها النقاش، ولا يرى من أمور الحياة إلا ما يؤيدها، وحتى عندما يطلع على الأفكار الأخرى سواء بالقراءة أو النقاشات، لا يعجبه إلا ما وافق فكرته، ويسفه أي فكرة خارج إطار الأفكار المقتنع بها، ويكون في هذه الحالة الشخص في أشد حالات الجمود الفكري رغم إطلاعه، ويكون فيها الانسان حيا جسديا لكنه ميت فكريا.
الجمود الفكري لا يصيب الأفراد فقط، بل حتى المجتمعات تصل لمرحلة الجمود دون أن تشعر بذلك. وفيها يصل المجتمع إلى عدم مقدرته على نقد ذاته، وأي فرد من أفراده ينتقد المجتمع يتعرض للنبذ والتجريح بأفكاره واتهامه بالانتماء لدول خارجية، وتكفيره.
وإذا كان النقد خارجيا يتم تحريفه على أساس نظرية المؤامرة وغيرها من نظريات التشتيت الفكري.
وفي حالة الجمود هذه يلجأ المجتمع لتراثه وتاريخه وينسى فيها حاضره ومستقبله، فيصبح كل نقاش عن المستقبل فيه ينتهي بالحديث عن التاريخ وأمجاد المجتمع وبطولاته السابقة، وهي حالة شبيه بحالة السكر لا يعي فيها المجتمع للأخطار الحقيقة التي تواجهه، وكل همه تغطية عيوبه والانغماس بحب ذاته، وفي هذه الحالة الاجتماعية ترتفع فيها الشعارات التي تشجع على الجمود وتقديس المجتمع لنفسه والتي تدل فيها أن الفرد في هذا المجتمع أفضل من غيره في المجتمعات الأخرى فقط لمجرد انتمائه لمجتمعه.
سهل على المجتمع أن يدخل في هذه الحالة، لكن الخروج منها هو الصعب، فتحتاج للتضحيات من المثقفين في المجتمع المصاب، الذين يتعرضون للاضطهاد والهجر، مثلما حدث في أوروبا للعلماء والمثقفين من قتل ونفي وتعذيب في محاكم التفتيش التي لم تكن مقتصرة في تعذيبها على المسلمين واليهود وامتدت لتعذيب كل من يرفض حالة الجمود الفكري الموجودة في أوروبا حينها.