هكذا أفاق الحنين بداخلنا.. ومزج شعور الفخر والعزة والحزن على الفراق وذكريات نهيم معها ونستلهم اعذب كلماته الشعرية التي اصفها بالسهل الممتنع..اما الكويت فهي حكاية حب لا تنتهي من الوجدان فهو حبيبها.. نعم هو حبيب الارض.
بعد مرور زمن طويل على فقدانه جسدا فقط، فذكراه لاتزال محفورة بداخلنا لا يستطيع احد انتزاعها من الجوف، هو ذلك البطل الخالد في انفسنا عبر السنين.
كان شاعرا مرهف الحس.. لكنه صلب وفائق القوة بأدواته وأسلحته الجبارة وهي قلمه ثم قلمه ثم قلمه الذي كان متصديا لقوات العدو الغاشم على أرضنا الحبيبة، لو جمعنا أسمى المعاني لا نستطيع وصفه فهو البناء لعزة وطنه وهادم لحياته لكنه لم يرخصه لمحبوبته الكويت.
لديه ارشيف زاخر رسخ في مخيلتنا فعندما ندندن «اوبريت» للعم أبوعدنان والسندريللا سعاد عبدالله وهو «اوبريت بساط الفقر» الذي اصبح اسطورة لكل زمان ومكان ووطن وموطن وصلاحيته سارية لجميع الفئات والاعمار والمستويات، وحين نستمع لغناية «ابعاد» التي تغنى بها فنان العرب محمد عبده نصفق ونتخيله اثناء مرحلة أسره لدى سجون العدو وكاننا نراه يحاكي ويسامر زوجته وابناءه ويقول لهم: «ابعاد كنتم ولا قريبين، ، المراد انكم دايم سالمين»، وترجمت تلك التحفة الفنية لعدد من اللغات، وأيضا «عطشان» للفنان عبادي الجوهر لا نستطيع ان نسلو كل تلك الابداعات المتواصلة، فأبو فارس رحمة الله عليه كان مساهما وله فضل في صنع الاغنية التجددية ونحت الكلمة الشعرية التي مزجت بيت العامية والفصحى، عبقري..حساس.. بطل كل هذا يجتمع في شخصية لا نستطيع نسيانها، فصدق حينما قال في احدى مأثوراته: «أنا لا أملك شي سوى كلماتي واسمي»، وبالفعل ترك لنا اسما نهواه وشعرا نعتبره موسوعة فنية وثروة حقيقية لا تقدر بثمن.
منذ ايام شعرت بلهفة خاطري وإصراري ورأيت رجلي تأخذني الى احدى دور العرض في الكويت وتحديدا سينما 360 بصحبة من يفقه ويفهم مشاعري وهي خالتي وصديقة دربي التي ترتبط معظم ذكرياتي بها «أم محمد»، لنحضر فيلما توثيقيا لرجل عظيم وعلامة فارقة في الأدب والشعر وهي قصة حياة الشاعر الشهيد بإذن الله فائق عبدالجليل، كنا في قمة السعادة والغبطة أثناء حجز التذاكر والدخول لدار العرض، حيث رأينا مقتنيات وبعض الصور لبطلنا الحبيب ومن ضمنها «الباينباق والنوتة الخاصة به» أثلجت صدورنا وأخذتنا الذكرى بعيدا، وعند ابتداء الفيلم شعرت بفخر شديد حيث ان فريقا فنيا شبابيا محترفا اعرب عن حبه وامتنانه لهذا الرجل الذي أعطى روحه لهذه الأرض فكان العنوان «حبيب الأرض»، كونهم طاقات شبابية يجتهدون كل هذا الاجتهاد رغم انهم لم تتوافر لهم بعض المقالات او اللقاءات لمثل هذه القامة الفنية من قبل بعض الصحف بالكويت، فقط كان الأغلب من الصحف السعودية والتلفزيون البحريني الذي نقل كذا حلقة عن سيرته، الا انهم أصروا على البحث والتنقيب عن أدق التفاصيل للشخصية، الفنانون كانوا عظماء في تجسيد الشخصيات والإحساس كان عاليا عدا ذلك مستوى راق لدقة الراكورات لا تجد خطأ، والمكياج الذي ادخلنا بدوامة الفكر والسهيان، حيث لن نصدق ان من أمامنا هو الفنان فيصل العميري أو عبدالله الطراروة بل رأينا أمامنا الشهيد فايق عبدالجليل بين مرحلة الشباب والرجولة، والمخرج المبدع رمضان خسروه حينما لمسنا رؤيته الإخراجية ومدى تعبه والذي قضى وقتا وفترة ما بين الأربعة شهور للتصوير وثلاث سنوات للبحث فتقنياته عالية، وحنان المهدي التي عكست لنا شخصية أم فارس والتي أذهلتني بدورها وعساني لا أنسى اسما فكلهم نجوم، وشكر خاص للراعية والمنتجة والرؤية للشيخة انتصار سالم العلي الصباح كونها تبنت مثل ذلك العمل الراقي المصوغ بماء الذهب، وكوني نشأت بين عائلة عشقت الشعر والأدب لامستني كل الكلمات المأثورات لرجل عشقته بيني وبين نفسي ذلك البطل الشاعر المرهف وكثير من التسميات لا تقف عند حد معين خلدت ذكراه، اثناء مشاهدتي لأحداث الفيلم وحقبة زمنية وهي فترة الغزو العراقي وخصوصا اثناء مشهد فراق الشاعر لابنه وكأنه يودعه في المطار لآخر مرة ادمى قلبي وذكرت والدي- أسأل الله له طولة العمر لما لاقاه أثناء اسره في احد السجون العراقية التي تفتقر لأنواع الرحمة، حيث عاد لنا والدي بعد تعذيب تعرض له في العراق وحينما رجع سرد لنا ما دار هناك من أحداث حزنت وشعرت بفرحتي بعودته واختلطت مشاعري بحزن شديد على ابن الشهيد فارس الذي بالتأكيد لايزال يعاني فراقه ومدى تمنيه لو رجع والده الى ارض الوطن، ولكنه عاد الى بارئه وترك لهم تركة فنية زاخرة واسما من العقيق وشرف الشهادة التي نالها.
ليس لي إلا أن أسأل الله ان يرحم شهداءنا الأبرار الذين نرفع رؤوسنا لما قاموا به من أعمال جليلة، ونأمل ان نركز على أعمال مماثلة تدشن شخصيات لها بصمة على ارض الوطن محفورة في القلوب، فكل منهم قصة، وحين مشاهدتي لمشهد آخر شرح مدى معاناة الفنان أو الشاعر في الماضي للوصول الى مبتغاه وتحقيق حلمه وكيف كانت الطريق وعرة، وكيف كان للكلمة معنى.
[email protected]