افتتح الأب في الخمسينيات شركة بسيطة جدا، برأسمال لا يتجاوز 10 آلاف روبية، وكلف ابنه الأكبر (18 سنة) بالعمل معه، وتطور العمل شيئا فشيئا، وتوافق ذلك مع الازدهار الاقتصادي في المنطقة، فانتعشت الشركة التي حصلت على عقود كثيرة حققت معها أرباحا طائلة، وكان الأب خلالها يتابع المناقصات والإيرادات، وكان الابن يعمل في الميدان منذ الفجر حتى الظهر، ثم يتابع عمله في الشركة بعد الظهر، حتى أصبحت الشركة من كبريات الشركات المرموقة.
كان الأب مركزيا في المعاملات المالية، وكل التوقيعات تتم من خلاله فقط، وأعطى ابنه راتبا بسيطا بحجة أنه ساكن معه في البيت، ويأكل ويشرب من ماچلة البيت «تفكير القدماء»، والابن راض، أما الأبناء الآخرون فقد عاشوا بكل دلال ورغد العيش، وأكملوا دراستهم الجامعية في الخارج على نفقة الأب، وعادوا بلغات ومهارات جديدة، وانضم بعضهم للشركة، وبعضهم في الوزارات والقطاع الخاص، وبعض البنات اكتفين بالزواج.
وبعد أن كبر الوالد وتعب، سجل 50% من الشركة باسم ابنه الأكبر، تقديرا لجهوده خلال السنوات الماضية، وبعد بضع سنوات توفي الأب وخلف وراءه ثروة طائلة، ولما اجتمع الأبناء لتقسيم الورث، فوجئوا بأن 50% من مال الشركة لأخيهم، وهو شريكهم في الـ 50% الثانية، ورغم تنازله عن حصته في الميراث لهم، إلا أنهم استشاطوا غضبا واحتجوا واتهموه بالتلاعب، واتجهوا إلى المحاكم.
حاول بعض الأقارب الإصلاح بينهم دون جدوى، وظلت الأموال معلقة لأكثر من 10 سنوات، وانتقلت الخصومة إلى الأبناء ثم الأحفاد، وقاطعوا بعضهم بعضا، لدرجة عدم حضور العزاءات والمناسبات لأي منهم، حتى تدخل مصلحون آخرون استطاعوا الخروج بتنازلات واتفاق سلمي بين الأطراف، لكن بعد «خراب مالطة».
هذه الحكاية الروائية، خلاصة عشرات الأحداث الشبيهة التي نسمعها منذ 40 سنة، وكل واحد منا لديه قصص أخرى بأشكال مختلفة، والسبب عدم وضوح الآباء منذ البداية مع أبنائهم في حقوق من عمل معه من الأبناء أو الشركاء، أو دخل برأسمال معه، بحجة الخصوصية، أو الخوف من المشاكل، خصوصا إذا كانت لديه أكثر من زوجة، ولكل واحدة أبناء، أو يظن أنهم اخوة متحابون (كما يراهم كل يوم) ولن يتخاصموا أو غير ذلك.
أنا لا أتكلم عن هبات الأب لبعض أبنائه في حياته، فهذه قضية أخرى، ولكن أتكلم عن تقسيم حصص في أملاكه مع شركائه، سواء كانوا أبنائه أو أقاربه أو عماله، فما زالت هذه المشاكل تتكرر إلى يومنا هذا لأسباب كثيرة وغريبة، ونرى نتيجة ذلك في أمرين، انتشار القضايا المالية العائلية في المحاكم، وقطيعة الرحم، وهذه أسوأ من الأولى.
لذلك اهتمت الشريعة الإسلامية بضرورة تسجيل الاتفاقيات المالية (العقود، الديون، الحقوق.. الخ) مع الشهود، خروجا من الخلاف.
هي دعوة للآباء قبل الأبناء، كونوا واضحين مع أبنائكم في كل عمل تقومون به، متاجرة، أو محفظة، أو قروض أو هبات أو شركاء أو حقوق مالية أو ديون أو أمانات.. الخ، وسجلوا ذلك ورقيا لدى المحامين وجهات الاختصاص، حتى لا يكون غموض الآباء سببا في خصومة الأبناء.
والله يحفظكم.